علي مهدي يكتب: البحث عن فرص الاتفاق في العتمة مشقة.. لكنها الأقرب للمُختلفين من حبل الوريد

28 يناير 2023

لو تراضى البعض للبعض عن بعض الحقيقة واكتفوا.. لخرج الوطن من دائرة العنف الكبرى

 

عُدت يا سادتي وحلمي يكبر، كلما طالت مسافات البُعاد عنها البقعة المباركة، ولحقت أشواقي من الانشطار بالمرور عليها مدينتي الأحب، ولي فيها الكثير، ومنها عادني الأكثر، أحملها في الجوانح حيث أكون. وأتذكرها شامة وشاية وراياً، في كل الأوقات كانت سندي وظهري الذي أتكئ.
يوم وقفت لاستلم تكريمي الأهم، وجائزتي الكبرى بين جوائز العالم في تقديرها للفنون، وظننت بنفسي الظنون، وإنني بطل حرب، لا مبدع كبير يمشي فرحاً يختال نحو منصة التكريم. ذاك المساء عمامتي عبرت السقف في القصر المنيف، المبنى الأحدث بين أشكال العمارة الفرنسية الأحدث، لكنه يتحلى بتقاليد القصور، والمراسم، وحُسن الناس مع الهندام، فيها مدينتي الأخرى الأحب (باريس)، وفي المدينة الساكنة علناً نهارها بضجة وحركة مستجابة وفي حب، وصاخبة بين بين، لا هي في بعض مناحيها المعنى الحقيقي لقطعة موسيقية لموسيقار أحدث، أو لحن قديم يعطيها من حسنها صوتا، ومعنى أن تكون مولعاً بالجمال في كل شيء، منطوقاً ومسموعاً، ويمشي في الطرقات رحمة للناظرين، وهي وفي بعضها رقة الآلات الوترية حين ترن وترن، فتظن أن أجراس الكنائس العتيقة تودع اوقات الشتاء برقة ما بعدها إلا ضحكة الصباح، لا تدري من أين أتت؟ او أنك تدري وتدعي أنك لا تدري، وإن كنت تدري كل الإدراك مع الإحساس.
مشيت نحوها، المنصة وكأني أمشي راجلاً بين بيتنا القديم في الحي الأقدم (ود نوباوي)، مشيت ولا على عجل، أرفع تذكار التتويج، وتفهم أنهم عشقوا التجربة لأنها خرجت من بين المدن الحزينة بالحرب اللعينة، وفي أنحائها فتحت أبواب الذاكرة، تخرج التصاوير تتدافع لتفوز بالركن الأحب عندي اجلس فيه للاستذكار، وتلك نعمة كبرى، أن تعود للتواريخ القديمة تبحث فيها هنا الفكر المستنيرة، عنها معاني الولوج عبر الدهليز سرداب السياسة، سياسة لا سياسات فيها من المُمكن بعض شيءٍ.
وأعود أقول مالي إنا والتفاصيل المملة. وأعود أوراقي، تصاوير تعبر عن اتجاه، أؤكد كل الأوقات إنني أعبر عنه، لا بالقدر المستطاع، لكن بكلي وما عندي، فلذاك ولهذا ولتلك، مشيت نحوها مَنَصّة التّتويج وفي خاطري وتصحيني الإشارات من ذاك الزمان، اقف بعد الشارع بقليل، عائدين وفريق المسرح الوطني – مسرح البقعة للمدينة الأهم يومها (نيالا)، أمضينا من فور وصولنا للمدينة نحو مناطق النزاعات يومها كانت تغطي أطراف المنطقة كلها. وانت هناك لا تعرف مَن مع مَن، ومَن ضد مَن، كلنا في الهم يومها غارقون في وحل النزاعات. لذاك قلت (مسرح في مناطق النزاع).
لا مسرح للشارع، ولا مسرح خارج العلبة، ولا مسرح يبحث عن فضاءات عرض جديدة. لا اتجاه ولا مدرسة مُغايرة، لا هو كما خرج أول مرة منها مدينتي الأحب (ملكال)، يوم كان القطر واحدا، والتعبير ليس من عندي، سمعته كثيراً يوم كان مكتبي فيها (دمشق) التي ضاعت منا ذات خصام وانقسام، يوم كان مكتبي فيها، أرتب اللقاء بعد الآخر، والأحباب عندي جلوس، ونكتب وننظر بعين الاعتبار لفرص التلاقي، والبُعد بعد الاختلاف. يومها ما عادت عواصم العرب كما عرفتها. والدنيا تسمح (لفيروز) بالشدو والغناء العذب على مسارح العرب، ثم أجلس في مقعدي في (باريس) انتظر الوصلة الثانية، جلبابي المنقوش يغطي مقعدي وأكثر، تلك أحلام الفنانين بسيادة الدنيا، والكون يومها منفتح على الخيارات الممكنة و(باريس) تعرفني، وقد زُرتها ومكثت فيها، وعرضت مسرحي مرة وأخرى، ثم نظمت عروض لأعمال تمثيلية سودانية، كانت هي الأولى بين مبدعي العرب، على مسرح معهد العالم العربي فيها (باريس) الجمال. ثم كانت عروضي الاخيرة تنشد أن تبقى فرص الحوار ممكنة، وهو حلم ما أكتب الآن عنه بكل الطرق الممكنة ورهنت وقتي لها فكرة الحوار المستنير الممكن، بين أبناء الوطن الواحد (السودان حدادي مدادي) بلا إقصاء، أو اتهام. حوار أفضل ما فيه، قبول الآخر، حوار الأفضل له هنا، ولو كان لي لأخذت أطراف الحوار. كلهم، حبستهم في مكان ما، ليس لهم مفتاح للعودة، إلا وثيقة الاتفاق، نعم. وما كتبت وما سأكتب مستقبلًا أن ندخل في حالة من الحلول المُمكنة ما أمكن. وقد خلعت بعض الأوقات جلبابي الأخضر، وجلاليب الفن، ولبست في عسر بعض أوراق السياسة، وقلت بحثي عنها السياسات، إنها غير مستحيلة فرص التلاقي.
أسعد كثيرًا بأن يشهد بيت مهدي هكذا أوقات وعملت على تسييرها الفرص الممكنة. وأيامي القادمات أدعو بشدة للتلاقي وحلمي القديم يذهب في الاتجاه الصائب، نعم.
عُدت يا سادتي من جديد وقت وقعت قبل أيام اتفاقاً لتقديم عرضي المسرحي الجديد مرة اخرى على مسرح (لماما – نيويورك) بعد حوار ظننت أنها دعوة لمحاضرة وورشة لمحبي فنون خارج الشارع الأهم في فضاءات المسرح الأممي شارع بردوي والصديقة الراحلة (الن استورد)، جلست ذاك المساء على كرسيها تتوسط الجمهور الكبير، وعرضي ذاك كان عرضاً عالمياً بالفعل، وهو يأتي في ختام المؤتمر العام للهيئة الدولية للمسرح ITI (يونسكو).
وفريق المسرح الوطني – مسرح البقعة وصل بمشقة، بل ولأول مرة في تاريخ المُؤتمرات الفنية والعلمية العالمية، يعلن المُشاركون الإضراب، ورفعت الجلسة لدقائق احتجاجًا على عدم منح الفنانين من أفريقيا تأشيرات الدخول. وكانوا قد وصلوا البلد (مدريد)، ثم الى قاعة المؤتمر في القصر القديم، وسمعت (مدريد) وحواريها، أصوات الأجراس والنوبات، وارتفعت الرايات، ودندن من دندن بغناء بهي. وكانت الفرجة الكبرى.
(بوتقة سنار)، وفيها إشارات السعي المبكر لأهل الفن والفكر لبناء وطن كبير يسع الجميع. وهو دهليزي اليوم تزينه التصاوير من عروض مسرح، سعي للسلام بالحوار بين الفرقاء، يوم كان (الدواس دواسا).
فهل نسمع رنين الأجراس والنوبات، قبل اصوات الرصاص والقنابل؟
هل نغني للسلام الممكن، بدل النواح والبكاء على الآباء والأبناء؟
نعم كل ذلك ممكن إن شاء الودود.
عرضي القادم افتتاح لأنشطة وبرامج مركز مهدي للفنون في مدينة (نيويورك) إن شاء الودود.
الحوار ممكنٌ هنا، وفي كل مكان، نعم، ممكن.. نَخُت الرحمن في قلوبنا ونقول خيراً…
قولوا خيراً…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى