الأزمة المستمرة: المركز والهامش.. صراع لا ينتهي

 

جرهام: ليس هناك ما يسمى هامش ومركز
خاطر: حسنة ثورة ديسمبر أنها حسمت الجدل النظري والعملي ما بين المركز والهامش
محلِّل: لا يوجد مركز واحد يدير شؤون السودان بل مراكز لديها عواصم
الخرطوم: صلاح مختار
لا أظن العنوان الذي يحمل القضية يصلح أن يكون عنواناً تقريرياً بقدر ما يكون عنواناً بحثياً، لأن جدلية المركز والهامش قضية شائكة ورائجة وقديمة في السودان وكل الذين تحدثوا عنها من زاوية خاصة, ولكن الملاحظ أن أكثر الذين أثروا القضية جدلاً وبحثاً كان المفكر أبكر آدم إسماعيل، في كثير من الندوات، تناوله كثير من الكتاب والنقاد بالتحليل والنقد.
أهل الهامش
لا يمكن لأحد أن ينكر وجود قدر من “الظلم” في حق أهل الهامش وهم سكان الأطراف أو الأرياف، وأن درجة ذلك الظلم تختلف من مكان لآخر، ومنذ الزمن السابق وحتى اليوم قد نجد ظلماً أكبر بالقرب من “مركز” المركز أي “العاصمة” أكثر من ظلم وقع على آخرين أكثر بعداً من ذلك الموقع, بالتالي المقصودة (بالهامش) أو (المهمشين) هو إبعاد تلك المناطق عن التنمية بشكلها المختلفة ومن ضمن انعكاسات التهميش السالبة، محدودية فرص التعليم وبالتالي محدودية الثقافة العامة، كما يراه البعض.
الأزمات والأزمان
ولأن القضية جدلية ومترحلة مع الأزمات والأزمان فإن واقع الحال في السودان يعكس ذلك من خلال استمرار الصراع السياسي والعسكري وحالة عدم الاستقرار في الولايات الذي استمرت لعقود من الأزمان. وحتى الآن ورغم التغيير الذي نجح في ديسمبر 2019 والتوقيع على اتفاق سلام جوبا وإنهاء حالة الحرب في دارفور والمنطقتين, والوصول بالحالة السياسية إلى اتفاق إطاري بعد عامين من الشد والجذب بين المدنيين والعسكريين, إلا أن أزمة الهامش والمركز بدأت تطل برأسها, ويقول أحد أعضاء المجلس السيادي: إن الإطاري اتّفاق صفوة لناس الخرطوم وما عندو علاقة بالهامش. ولكن وزير الثقافة والإعلام د. جراهام عبدالقادر قال خلال مخاطبته أمس، ختام فعاليات الملتقى الرابع لمديري مكاتب سونا بالولايات بود مدني: “ليس هناك ما يسمى هامش ومركز وأن الولايات هي المركز وهي القوة ومناطق إنتاج”. بالتالي جدلية المركز والهامش ظلت مرتكزة في أطر السياسية والتنفيذية حتى اليوم، ما يستدعي معه البحث عن كيفية إنهاء تلك الجدلية المتلازمة للتاريخ السوداني.
بلورة الشعور
ربما الحديث عن الهامش والمركز محاولة لكسر هيمنة المركز على القرار ومحاولة للتمرد عليه, ولكن في وجهة نظر الكاتب والمحلِّل السياسي عبد الله آدم خاطر، يرى أن السودان عرف كممالك وسلطات ومشائخ في مختلف أنحاء السودان، وكانت بينها المصاهرة والتجارة والحروب. وقال لـ(الصيحة): كل مايحدث بين الدول والمكونات، خاصة ما كان هناك حدود واضحة, حتى جاء الحكم التركي الذي أنشأ الدولة المركزية على قاعدة الاجتماعية الاقتصادية لدولة سنار وهي أيضاً المركز الذي فيما بعد اعتمدت عليه المهدية والتي جلبت أقاليم السودان. لكن في إطار أصبح مركزي بلورة الشعور القومي في إطار البوتقة الثقافية الاقتصادية الاجتماعية وإنهاء وجود السلطنات القديمة.
الدولة المركزية
وقال خاطر لـ(الصيحة): عندما جاء الإنجليز وجدوا الدولة المركزية واحدة واشتغلوا عليها وكانوا حريصين أن لا تكون دارفور خميرة عكننة، أو أن تصبح حاجزاً بينهم وبين الفرنسيبن في غرب أفريقيا, ولذلك الدولة بعد استشهاد السلطان على وهزيمته أصبح الناس لم ينسوا الانتماءات القديمة, الانتماء لدارفور, وتقلي لجبال النوبة والانتماء للانقسنا سنار القديمة. وأضاف: تلك ظلت موجودة تحاول أن تجد نفسها في المركز.
ثورة ديسمبر
وأكد خاطر إذا كان هناك حسنة خرجنا بها من ثورة ديسمبر المجيد لأول مرة تحسم، مسألة الجدل النظري والعملي مابين المركز والهامش تماماً, وقال: الآن بالاتفاقات الموجودة ليس هناك لا مركزية فيدرالية وسيادة حكم القانون وحسن إدارة التنوع وأن المواطنة هي المعيار للحقوق والواجبات, أصبح ليس هنالك مركز واحد يدير شؤون السودان, إنما مراكز لديها عواصم, يمكن أن تكون دارفور مركزاً, والفاشر يمكن أن تكون مركزاً لدارفور, ويمكن أن تكون الدمازين مركزاً وعاصمة لإقليم كان موجوداً، كذلك دنقلا, وكادقلي, أو الدامر. وتظل الخرطوم عاصمة لإقليم اكتسب ميزة فكرية واكتسب مزايا ثقافية واقتصادية وفكرية تساهم مساهمات كبيرة جداً أن يصبح السودان ليس مركزاً واحداً وإنما مراكز متنوعة لكنها متعاونة ومتكاملة وهذا عبَّر عنه الاتفاق الإطاري. وقال بكل تأكيد أن أي تطور أن يصبح الاتفاق الإطاري اتفاق نهائي سوف يؤسس على هذه القضايا الأساسية, وهذا هو المخرج للسودان سواءً كان لسياساته الداخلية أو الخارجية.
إنتاج المركز
هناك كتاب ضخم ومنهج تحليل للكاتب الكبير الدكتور أبكر آدم إسماعيل، يسمى بـ(جدلية المركز والهامش) ذكر فيه صورة تحلل واقع ما حدث لبعض قيادات الإنقاذ وآخرين, يعرف دكتور أبكر, إنتاج المركز بأنهم أشخاص من الهامش تم استيعابهم وإعادة إنتاجهم في المركز وصُوِّر لهم إنهم أصحاب قرار, لتطبيق سياسة المركز باسم ” فرق.. تسد ” وزرع الفتن في الهامش لتمرير أجندة المركز واستقطاب شعوب الهامش عبر الترميز التضليلي لتغييب عقول الهامش (بإن ولدكم فلان وزير) وبمجرَّد أن يحاول الوزير الهامشي رفع رأسه يُزجر ويوصف بالعنصرية ومن ثم يعزل من وزارته إلى الشارع يعاني مشاق الحياة ولكي يثبت هذه الفرضية قدم بعض النماذج منها: النموذج الأول: الشهيد الباشمهندس داوود يحيى بولاد, الذي تبوأ منصب رئيس في اتحاد طلاب جامعة الخرطوم (الدورة التي كان الطيب إبراهيم محمد خير يشغل فيها منصب السكرتير الثقافي)، ولكنه خرج من الحركة الإسلامية وانضم إلى الجيش الشعبي والحركة الشعبية لتحرير السودان في زمن كان الانضمام إلى الحركة الشعبية (رِدَة وكُفر) في عيون أحزاب المركز (النُخب الشمالية), لقد قاد بولاد حملة عسكرية إلى دارفور وهو يقود مجموعة من مقاتلي الجيش الشعبي لتحرير السودان في صيف 1991م بعد أن اكتشف أن الحركة الإسلامية مشروع ديني زائف. ومن الطرائف الغريبة أن دكتور جون قرنق قال له: (خليت الحركة الإسلامية وجيتنا نحن الكُفَّار), رد بولاد قائلاً: (لقد اكتشفت أن الدم أتقل من الدين)، أي أن علاقة العرق أقوى من الدين بين أعضاء الحركة الإسلامية. واستند إسماعيل في تحليله على كثير من الأمثلة الحية من عهد الإنقاذ.
البنية الفوقية
ويرى إسماعيل أن البنية الفوقية للصراع في السودان، أنه صراع المركز – المركز، عيال المركز يتصارعون فيما بينهم في كراسي السلطة، ولا يتنازلوا حول هيمنتهم على بنية الدولة السودانية ككل، مشيراً إلى الدائرة الشريرة، تدور في البنية الفوقية، أما الصراع الكبير في السودان هو صراع بنية ضد بنية، ليس صراع داخل البنية الواحدة، لسبب متعلق بتكوين السودان، لأنه تم تأسيس الدولة بواسطة الاستعمار، والكتل التي تكوَّنت داخل هذا الإطار، مختلفة ثقافياً ومتفاوتة تاريخياً، وعندما تم إدخالهم في الهرم، بعض الناس صعدوا إلى الهرم بسبب الامتيازات التي أصبحت الموانع الهيكلية التي تمنع الآخرين، ولكن مع إعادة الإنتاج والتطور، وبدأ وعي الناس بهذه المسائل، تطورت من خلالها الحركات الاجتماعية عن طرق الانتقال من الريف إلى المدن، وعبر التعليم في ذات الوقت، وعندما أرادوا التسلل إلى سلم الهرم، اكتشفوا الموانع التي أدت إلى النزاعات العميقة في السودان، وليست نزاع حزب فلان وعلان، وفي طبيعة الحال أغلب الكيانات المهمشة إثنياً وثقافياً كانت تعيش في مرحلة ما قبل الدولة، بالتالي موضوع الدولة لم يكن من أسئلتهم، ولم يكتشفوا ذلك إلا لاحقاً، وهذا ما جعلهم يأتوا متأخرين، وعندما بدأوا بالسؤال، بطبيعة الحال تم تصنيفهم، بعد ذلك بدأت قوى المهمشين تكبر، وتتطور من ناحية عددية ومادية بسبب الحراك وتطور المدن والاتصالات والتعليم، بدأوا يكتشفون واقعهم، مع تطور وعيهم السياسي، ثم دخلوا في الصراع.
إعادة أنتاج الأزمة
يقول أبكر، في ذات الشأن وكان رد الفعل من الفئة المهيمنة فظيع، لذا ساعد في تأزم الصراع، ودولة الريع العشائري في السودان قائمة على مشروعية العنف، لأن أساس الدولة استعماري، بالتالي ولدت عنفها المضاد على المستوى المادي والرمزي، فيما يحدث في السودان، وكل ما يمضي إلى الأمام الواقع يطرح أسئلة جديدة، بدخول فئات جديدة في حلبة الصراع، وتحمل أجندة خارج الأجندة التي يتجادل حولها أولاد المركز، في بينيتهم الفوقية للصراع، كلما يتقدَّم إلى الأمام المسألة تتطور، أضاف أبكر أن الصراع تطوَّر، وصل إلى هذه المرحلة، والأفق المسدود بسبب القصور الحاصل، لأن الثورة دائماً يتم إجهاضها لسبب متعلق بأصحاب الامتيازات، يستحيل أن يتنازلوا بهذه الامتيازات بالساهل، وأصحاب المظالم التاريخية لم يصلوا إلى مرحلة من القدرة على بناء قوة، وكذلك الوعي الذي يمكن أن يزيلوا به هذه الوضعية، أصبح هناك نوع من التوازن السلبي، والعمل على خلق تكتلات الضعاف، وأوضح الفشل في خلق كتلة تاريخية لإزالة هذه الوضعية، حسب جدلية المركز والهامش كي تحل المشكلة يجب أن يكون هناك تغيير جذري، والتغيير الجذري بوجود قوة تاريخية، وتساءل أبكر، أين هذه القوة؟ وإحدى الإشكالات، في الأحلام التي يحلموها ورثة الامتيازات في الاستمرار في نفس الوضعية، وكلما وجدوا ضعفاً في قوى الهامش، يستغلوها، ثم يعيدوا إنتاج الأزمة، هذا يقود إلى مشكلة أكبر.
تشخيص المسائل
ومن الجانب الآخر، يتمثل في عجز قوى الهامش، عدم الوصول إلى بناء القدرة والقوة الاجتماعية التي يمكن أن تنجز الفعل التاريخي، يؤكد أن وضعية الدولة السودانية وصلت إلى نهايتها، مهما تعمل لن تستطيع إعادة إنتاج نفسها مرة أخرى، يطالب أن يفتح الجميع ذهنهم، هناك العديد من الأبواب لإعاة قراءة هذا الواقع، والجدلية إحدى الأبواب التي يمكن أن تساعد في ذلك، عليهم قراءة الواقع، وتشخيص المسائل بشكل أفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى