علي مهدي يكتب : المسرح في مناطق النزاع..

8 أكتوبر 2022م
من فكرة لمُعالجة الأطفال من رهق الحرب في (ملكال) إلى منهج فني وتقني وعلمي ومشروع عالمي لتعزيز السَّلام الأممي

استخدامات الفنون الأدائية لتعزيز السَّلام، منهج للتدريب والتدريس الآن في جامعات لندن وجورج تاون واشنطن وطوكيو وأديس أبابا ونيويورك وأخيرًا في (أكرا – غانا) بطريقة إيطالية

بعد إعلاني المشروع المنهج في (الأرجنتين) أول مرة تأسست مراكز للمسرح في مناطق النزاع بألمانيا وبوليفيا ومانيلا وروما، والآن في غربها أفريقيا (أكرا – غانا) وقبلها في جامعة (ماكريري أوغندا(

 

عُدت يا سادتي إلى البقعة المباركة، أمشي ذاك المساء، كنت بين تواريخ المدينة الأحب، أحرس في صمتي ذاك، ظلال بيوت أهلي القديمة، أعثر في تعثري على قطعة أقدم، سقط عنها لونها البهيج من حجارة كانت جزءاً من حائط بيتنا القديم، يتبقى منه الآن القليل يتلألأ في الأضواء المفاخرات للصمت، تبعث فيها المسافات بين (الخور) القديم، كان قبل مولدي هنا، يأتي من غربها (أم درمان) الأحب يمشي، يحبو، يركض، حسب التساهيل، والمياه فيه أحياناً لها صوت كما الغناء قبل الأصيل. وهناك فرق، نعم، كنا ننتظر ذاك الغناء من عندها في الخريف، تجري المياه بلا تَردُّد نحو البحر، تمر بالأحياء، وفي كل واحد منهم حكاية وأخريات تزداد جمالًا، إذا ما جلست لها مرة وأخرى تنظر في التفاصيل، خاصةً إذا كنت بعيداً عنها، تخنق حلمك في المسافات بينها. اجلس في انتظار من تنتظر في المقهى الأحب إليك، ما تعودها (نيويورك) إلا وتمشي كما المسحور إليه، تجلس بلا موعد أحياناً، حفظك النادل والساقي، قهوة سوداء بلا إضافات، تحتسيها على عجلٍ، ولا موعد لديك؟ ولا شأن تمشي نحوه في تفاصيل المدينة التي تعشقها. ليللتك الأولى فيها هي خالصة لك، ولا ساعة للقاء أو انتظار موعد قديم يتجدد. والبرامج تبدأ في الغد باكراً أو على الظهيرة.
– [ ] (نيويورك) المدينة الأحب، جئتها أول مرة قبل خمسة عقود تزيد ولا تنقص، شاباً ما عرفت للغرام معانٍ، أو للاشتياق تفسيراً، وسفرك الثاني البعيد كان لها، وسبحان الذي يسر لك من (ود نوباوي) الى الشارع رقم؟ يتقاطع مع؟ الأرقام لا تهم، ناطحات السحاب تكفي إشارة وعلامة، والاسم كان عجيباً يومها، وأنت بين بين، المضيف لك عاشق، وأنت معشوق، فيا معشوقي أفرز لنا البصائر، وخُذ البصر إلا قليلاً. وصلتها في الصباح، والسيدة الكاتبة والممثلة الأجمل في انتظارك، خارج بوابة المطار الكبير (جون كنيدي)، سمعت الحكايات وطالعت بفرح الأفلام عنه وعشقت فيه الشباب والأسرة العريقة والنسب والحسب. العقل كما هو في (الأبيض أو بارا) أو (سان فرانسيسكو أو اشتودقارد)، كما هي الفكرة الأولى تحتاج أوقاتاً، لا للتغيير فذاك عسير، لكن للتوافق ممكن. و(المركز الثقافي الأمريكي) غير بعيد من وسط المدينة، على شارع القصر، يعجبني اسمه القديم شارع (فيكتوريا) فيه الفندق باسمها، والمعبد اليهودي قائم، قل عدد المصلين فيه، وضاع المبنى وراح التصميم البهي العتيق، وتبقت خزن الحديد للأموال في ذات المكان محل التراتيل، وخلفه كان النادي، (الشباب اليهودي) شهد أول عروض مسرحية قدمها شباب السودان من غير الطائفة اليهودية. ثم ضاع الأمس مني. والمدرسة القديمة (الاتحاد)، أسستها الكنيسة الأقدم، كنت يومًا عضوًا في مجلسها بذات عمتي الخضراء، وفتحت أبوابها لكل أهل الأديان، وطابق اسمها الاتحاد فعلها. وإذا نظرت ثم استرجعت ما لك فيه من تصاوير أقدم، لعرفت ثم علمت، وقد تحقّقت هنا، حيث أقمت لفترات متقطعة في فندقي ذاك غير البعيد منها كلية الطب، يتوسّط المسافة بين فندق (مريديان) وأربعة أو خمسة بيوت، نعم كانت لأهالي الخرطوم عموم القديمة سكنٌ فاخرٌ، وعيادات، أشهرها الدكتور (عبده دهب)، الفندق الصغير كان للفنان الإغريقي السوداني عازف الجيتار الكهربائي (استفانوس)، وغير بعيد من كلية الطب والنصب التذكاري للجندي المجهول. أين ذهب؟؟ والسؤال مفتوح الى يوم الدين، وكلها كانت من أوقاف البغدادي عليه الرحمة. ثم تلك المدينة (نيويورك) التي أخذتني إليها بقوة، أخذت مني أوقاتاً جميلة، وأعطتني الكثير. والمشروع الإنساني الإبداعي الأهم (المسرح في مناطق النزاع) وجد فيها وجامعاتها ومسارحها الاهتمام، ثم الانتشار مع القبول والتداخل لدراسته مع التحليل. فتلك المدينة عندي هي من أسباب انتشار الفكرة المبادرة، المشروع (المسرح في مناطق النزاع). وكنت أول مرة أعرض الفكرة وتصوير للتجربة بعد التطبيقات العملية للأطفال العائدين من معسكرات الجيوش المتعارضة في جنوب الوطن وقتها، عرضتها على الأحباب من أهل المسرح الوطني – مسرح البقعة. قال بعضهم ومن الشركاء لنقل (في مناطق الصراع). ولما كُنّا جماعة فنية تعشق الحوار الحر الديمقراطي، وهذه مني، من حيث أتيت للفنون، وتلك حكاية أخرى، تحاورنا وقلت لهم، والحديث في مكتبي بشارع الجمهورية، غير بعيدٍ من تقاطعه مع شارع (المك نمر). اجلس أشرح الفكرة، عائداً من مدينتي الأحب (ملكال) اذهب أروح أكثر من مرة في الأسبوع، وأبيت الليالي فيها. جئتها أول مرة أبحث عن فرص تشييد أول قرية للأطفال الأيتام هناك، والحرب في الجنوب تحصد الكبار آباء أمهات، إخوة وأخوات كبارا، ويبقى الأطفال بلا أسِرّة. فقلت لأهل المال من الفرنجة لنبني لهم قرية على نظام قرى الأطفال SOS، ترعى وتسهم في تحسين ظروف الحياة، وتجارب قرى الأطفال SOS العالمية أفضل نموذج للرعاية الأسرية الكاملة، بشمول العطف، ومصدره الأم أساس الأسرة. وأصل الحكاية إنني لاحظت أن السوق والمدينة يمتلان كل يوم بعدد كبير من الأطفال والصبية، يمشون بلا هدف، ويمارسون عنفاً ظاهراً، واشتكى الناس، خَاصّةً أصحاب المتاجر في السوق، وتربطني بهم معارف وصداقات. وانتشروا واقتربوا من أسوار قرية الأطفال، والتقيت بعضهم، حديثهم قليلٌ، والنظرات متعبات مِمّا شاهدوا، وعلمت بعدها أنهم من الأطفال المجندين السابقين، ظلوا في صفوف الحركات، والقوات وقتها في الجنوب ما أكثرها، وتعاظم الخطر عليهم وعلى المدينة وأهلها على ما فيها من مخاطر، وتساءلت كيف يمكن أن نسهم في تخفيف حِدّة التوتر؟ وتقليل العُنف بينهم؟ أولاً المعارك بينهم نتائجها بلا حدود، موت أو جرحى، ومن يهتم. وجلسنا بعضنا الى بعض، العاملين هناك من أهل العمل الاجتماعي والمبدعين من المسرح الوطني – مسرح البقعة نتدارس فكرتي ونتشاور حول التطبيقات الممكنة على أرض الواقع، والمدينة ملكال وما حولها وما فيها ما فيها من عنف مفرط، وتعدٍ على الأرواح بألا حساب. وتلك كانت من أهم ما ساند الفكرة عندي. (إيقاف العنف كل أشكال العنف المفضي للفوضى). ومنحت قطعة الأرض غير بعيد من وسطها المدينة، أقمنا المعسكر بالممكن مما هو متاح، ظُل هنا وآخر، وساحة في الوسط تتّسع للجميع، قلت هذا مركز الكون، ونقاط التلاقي، لأنهم ما كانوا يلتقون أبداً، وإذا حدث فتلك معركة لا شك، وقسمناه المعسكر، مكان لصنع الطعام على قلته، وآخر للنوم. وظننت أننا سنلعب سويًا يوماً، ما دمنا هنا في معسكر الأطفال المجندين سابقًا. هذا اسمه الرسمي، فتحنا الدفاتر، سجلنا الأسماء ما أمكن، والحياة في المعسكر تحوم بيننا خجلة، والأسئلة تمتد، ولا انتظر منها الإجابة، وعندي أن أسعى لتقليل العنف بينهم ما استطعت الى ذلك. ولم أتحدث اليهم كثيراً، لا رياضة تجمعهم، كل فريق يعرف الآخر من فترة خدمته العسكرية، ولا قبيلة تجمعهم، أُخذوا مبكراً أطفالا من أهلهم، واللغة المشتركة هي العنف ولا بديل للعنف إلا المزيد منه، فحار بي الدليل، وذهبت مبكرًا ذاك الصباح الى السوق حيث اعتدت الجلوس الى أمي (مريم) كتبت عنها مرة وأخرى، قالت تحكي (شوف يا ولد مهدي ما تسألني من وين أنا؟ من حي ملكية ده، تجيني بالليل مدلدل يديك تعبان كايس الأكل السمح والمحنة، عارفاك، شوف، عيالك ديل إلا تغني ليهم، أي ترقص، تحكي ليهم، وأقول لك كلام تمثل ليهم، أي وأنا بديك الحكايات، قصص. لكن تعرف، الحق أشرب قهوتك ما تبرد، كلمتك قلت ليك جيب معاك جنزبيل تمشي وتجي مدلدل إيديك لي أمك مريم، فهمت يا جنا حشاي).
– [ ] وتلك الليلة رجعت المعسكر وجمعتهم وحكيت ما استطعت، ووقفت ومشيت عنهم، واليوم الثاني والثالث، لأربعة ليال لم تتوقف الحكايات، وكبر الجمع، واقتربوا أكثر من موقع الحدث، وحيث أكون هو نقطة البداية، وغبت عنهم، ثم في الليلة بعدها طلبوا المزيد، فقلت صوتي بَحّ عني، وأنتم على البعد، تعالوا أقرب. وكانت تلك الليلة الأولى نتحاور أقرب أكثر، وصار مركز الكون في النقطة الأهم، ثم اقتربوا أكثر فأكثر، وسألتهم أن نعيد تشخيص الحكاية. وتردّدوا، فامتنعت عنها ليومين بلا حكايات، وفي الثالث، وقفوا لأول تمثيلية في أرضك يا (ملكال) عن أسد وقط وفأر ورجال ونساء وأطفال، ومشينا في دروب التشخيص، كل مساء نحن في حالة. ونظرت بعدها لأيام، ثم كتبت أول كلمات في الفكرة، المنهج والمشروع، قلت كل منا له حدود يعرفها، يقف عندها، وهي بينه والآخر، مسرح بين الحدود، ثم بعدها قلت نحن في قلب الصراع نتنازع الأشياء ومن بينها الحياة، وبالفن نحيا، فهو مسرح للحياة، مسرح في مناطق النزاع. ومشينا به في أنحاء دارفور الكبرى، ثم بعدها الى (الأرجنتين) المؤتمر العام للهيئة الدولية للمسرح ITI اليونسكو، وطرحت الفكرة مع التصاوير على لجنة الهوية والتنمية الثقافية، ودار الحوار الأهم في مشوار الفكرة. خرجت من ملكال الى دارفور، من المسرح الوطني مسرح البقعة الى العالم. وأصبحت في ذاك العام جزءاً من البرنامج الدولي المشترك بين السودان وألمانيا. وقلنا معاً، والوثيقة الأم تزين الجهود مسرح في مناطق النزاع، يلتقي مع التجربة الألمانية، (عدوي الخفي) للمخرج الألماني الكسندر استلمارك، ونتبادل الأفكار والزيارات، ونوقع الاتفاق، وتنضم الأفكار والجهود الأخرى (مسرح المقهورين) الصديق الراحل اوقستو بوال. وتذهب المجموعة السودانية من المسرح الوطني مسرح البقعة لشهور في ألمانيا اشتودقارد ونعود ونؤسس (مركز المسرح في مناطق النزاع) بالخرطوم في مركز مهدي للفنون، وتتسع دائرة المشاركة للمبدعين والنقاد السودانيين، وننظم ورشة ثانية في كلية الموسيقى والدراما بمشاركة ألمانية وبرازيلية، وتقدم نتائج الورشة في أكثر من مكان، والتحيات العطرات المبدعة البرازيلية (باربرا سانتوس) مساعدة (اوقستو بوال) على جهدها العلمي من اشتودقارد والبقعة المباركة.
– [ ] تلك بعض من حكاية المسرح في مناطق النزاع القطرية والإقليمية والدولية
– [ ] وسأكتب عنها والأسماء اللامعة في مشوارها
– [ ] وكل عام وأنتم بألف خير وجعل الودود كل أيامكم سلاماً…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى