البحث عن تسوية للحرب المنسية

حميدتي من انجمينا إلى أسمرا ماذا خلف الجدران الصامتة..؟!

(1)

في لقاء جمع مني أركو مناوي، بوفد يمثل حكومة السودان في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.. عند التوقيع على اتفاق خارطة الطريق، فاجأ مناوي الجميع وخاطب الحضور بموقف سياسي مختلف عن مواقف شركائه الآخرين في تحالف نداء السودان، الإمام الصادق المهدي وحزب المؤتمر السوداني والحركة الشعبية.. مناوي اعتبر تسوية النزاع في مناطق الهامش وغنصاف المظلومين وإعادة إدماج اللاجئين قضايا لها أولوية على عودة النظام الديمقراطي وإجراء الانتخابات.. واللغة التي تحدث بها مناوي “إنجليزية” معقمة جعلت السفير حسن حامد يبدي دهشته من تطور شخصية مناوي الذي كتب مساء الأربعاء في صفحته بالفيسبوك مقالاً حدد مواقف حركته بجلاء عما يحدث في الساحة الآن.. وأشار بوضوح لا لبس فيه لأولويات القضايا التي تنتظرها.. وجاء في مقال مناوي: “إن المشكلة السودانية أعمق بكثير من مجرد نقل السلطة من الوضع العسكري للوضع المدني والحل الشامل للأزمة السودانية بظلاماتها التاريخية يستوجب مخاطبة جذور الأزمة وأن القراءة الخاطئة من النخب السياسية ستفضي إلى حلول تتقاصر وتطلعات السودانيين المشروعة في تعافٍ وطني مستدام.. ترى الجبهة الثورية أن الثورة السودانية هي ثورة للسلام والحرية والعدالة الاجتماعية ولمخاطبة قضايا السلام.. ترى الجبهة الثورية ضرورة تخصيص نسبة 35% من جملة السلطة الفيدرالية “المجلس السيادي والجهاز التنفيذي والتشريعي” للسلام أثناء الفترة الانتقالية ليتسنى للأجهزة بناء هياكل الدولة، وإزالة آثار الحرب بعودة اللاجئين والنازحين وترتيب أمر إعادة بناء هياكل المؤسسات مدنية قبيل الاستقلال وحتى ثورة أكتوبر المجيدة، تجاهلت مطالب الجنوبيين في الفيدرالية، وعقب ثورة إبريل الظافرة لم تخاطب قضية كل السودان، وقفزنا فوق حقيقة كيف يحكم السودان إلى من يحكم السودان, فاستمرت الحرب، ولا تزال قضية الحرب والسلام تتصدر قائمة القضايا السودانية, يجب إعطاؤها الأولوية اللازمة واليوم نحن جميعاً أمام فرصة تاريخية لإحداث مصالحة وطنية حقيقية تخاطب هموم وقضايا ومطالب جميع السودانيين على قدم المساواة، وعلينا اغتنام هذه السانحة، وأن اللاجئين وضحايا الحروب والنازحين في المعسكرات وجميع ضحايا الأزمة السودانية التي راح ضحيتها مئات الآلاف ولا يزال يدفع ثمنها الملايين..

إن القوى السياسية السودانية مطالبة بالالتقاء عاجلاً لصياغة رؤية موحدة حول كيفية إنجاز الانتقال المدني الشامل الذي يضع في الحسبان قضايا السلام، ويستصحب الظلامات التاريخية، ويتعظ من التجارب, ونكرر الطلب بضرور أن تلتقي كل المعارضة وعلى رأسها الحرية والتغيير لوضع أساس متين لحل وطني في أقرب وقت ممكن، تحقيقاً لأهداف الثورة السودانية المتفردة بتنوعها الثقافي والسياسي والاجتماعي حتى تشكل من هذا التباين عقداً اجتماعياً جديداً..

إن الثورة السودانية تقدَّمها الشباب وضحّت فيها المرأة السودانية، والجبهة الثورية ترى ضرورة فك احتكار الفرص لإشراك عنصري الشباب والمرأة في الميادين السياسية، وفي أنشطة المجتمع المدني حتى ينعكس التغيير في شرائح المجتمع الحية والحاجة ماسة إلى مشاركة القوى السياسية في مؤسسات الفترة الانتقالية بلا إقصاء إلا المؤتمر الوطني البائد وواجهاته المصنوعة.. وتؤكد الجبهة الثورية حرصها على المشاركة بفاعلية في تشكيل المشهد الوطني من داخل السودان وأمر وصولها للعمل من الداخل رهين بإكمال عدد من الترتيبات الخاصة بوقف الحرب والبدء في وقف إطلاق نار حقيقي وتدشين العملية التفاوضية والاستمرار فيها وصولاً لاتفاق سلام نهائي يمنح فرصة كافية للحراك المدني في جني ثمار الثورة”..

مني أركو مناوي رئيس الجبهة الثورية السودانية في الثالث من يوليو 2019م.

(2)

ما أشبه الليلة بالبارحة كما يقول العرب!! عند سقوط النظام المايوي الذي حكم السودان لمدة 16 عاماً، وعادت الديمقراطية بكل عنفوانها وصخبها.. ورفرفت رايات الحرية في بلادنا لم يقرأ القادة السياسيون ببصيرة ما يجري في جنوب البلاد من حرب ساهمت بقدر في إسقاط النظام.. وهرولت قيادات الأحزاب نحو القصر والبرلمان ومجلس الوزراء في تجاهل واضح لقضية الجنوب ووصفت الحركة الشعبية حينذاك المجلس العسكري الانتقالي بمايو الثانية، وبدلاً من تصويب القادة النظر للأسباب التي دفعت الجنوب لحمل السلاح وكيفية الاستجابة للمطالب الموضوعية والرد على ما دون ذلك أخذ المجلس العسكري على عاتقه “نفي صفة المايوية عنه”، وأسرع الخطى لإثبات زهده في السلطة وحرصه على نقلها لقادة مدنيين ينتخبهم الشعب، وبعد “16” عاماً لم يتغير في الخارطة السياسية غير انتقال الحزب الاتحادي الديمقراطي من المرتبة الأولى إلى الثانية وصعود حزب الأمة برئاسة الصادق أمل الأمة حينذاك إلى المرتبة الأولى، وعودة الحكومة الإئتلافية بين الحزبين الكبيرين مع إضافة هامش لأحزاب الجنوب والحزب القومي السوداني.

واليوم يعيد التاريخ أحداثاً متشابهة وتهرع الأحزاب التي قادت المعارضة وتصدت لنظام الإنقاذ حتى سقط “بمؤامرة داخلية” ومؤازرة إقليمية.. وثورة شعبية وانقلاب الضباط على قائدهم.. ولم تتعلم النخب السياسية والعسكرية من دروس التاريخ القريب والبعيد.. وهرول الجميع نحو السلطة وتصاعدت الخلافات بين العسكريين وقوى الحرية والتغيير كما هو معلوم.. وتجاهل الجميع الأسباب الحقيقية لأزمات السودان، حيث ذهب الجنوب إلى سبيله كدولة مستقلة كثمرة لعجز القادرين على الحفاظ على وحدة البلاد، وبقيت الحرب في دارفور والمنطقتين مهدداً لما تبقى من السودان السابق ومنذرة بحدوث شروخ جديدة في جدران البلاد قد تعصف بالتجربة الديمقراطية الحديثة.. بسبب تجاهلها لأزمات البلاد الحقيقية.. والداء الذي استعصى وصف دوائه.. وصحف الخميس أوردت خبراً متسقاً مع ما ذهب إليه أركو مناوي من سحب الجبهة الثورية لممثلها في التفاوض محمد سيد أحمد “الجكومي” الإداري الشهير باتحاد كرة القدم السوداني وأحد قيادات الحزب الاتحادي الديمقراطي المعارضين للحزب وهو “يرتع” في فلاة السلطة الإنقاذية حتى ارتوت بطونه بالحليب والطيبات.. وبعيداً عن كيف أصبح “الجاكومي” ممثلاً لضحايا “طويلة” وشهداء “كورما” وبندسي ومزيد “ودليج” التي بسبب أحداثها وتداعيات ما جرى فيها فتحت المحكمة الجنائية تحقيقاً.. هل “الجاكومي” قد سمع من قبل بأحداث “كورما” ليجد نفسه ممثلاً لهم وينوب عنهم في مفاوضات القصر وفنادق الخرطوم؟؟

هل المفاوضات التي تنعقد هنا في الخرطوم يمد المفاوضون بصرهم لقضايا الهامش؟؟ أم يصطرعون حول المغانم السلطوية وتصفية الحسابات التي لا تبني وطناً.. والانتقام الذي تضمره القوى المتصارعة لبعضها البعض بينما الذين “ضحوا” بأرواحهم وفلذات الأكباد وفقدوا نعمة الاستقرار ونعمة الحياة ينوب عنهم من لا يمثلهم سلوكاً وجغرافية وفكراً.. وينصرف القادة من النخب إلى قضايا قسمة السلطة التي تقرر تقسيمها بنسبة 98% من الحقائب الوزارية إلى قوى الحرية والتغيير وحقيبتين “الدفاع والداخلية” إلى القوات النظامية و67% من المجلس التشريعي إلى قوى الحرية والتغيير وما تبقى للحركات المسلحة والقوى السياسية التي لم تشارك في حكم الإنقاذ.. وبهذه القسمة لن تجد حركتان كبيرتان ومؤثرتان.. مثل الحركة الشعبية برئاسة عبد العزيز آدم الحلو وهي الحركة “الأقوى ميدانياً” وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور مكاناً لهما في مجلس الوزراء لأن الحركتين لم توقعا على إعلان الحرية والتغيير لتحفظات رفضتها قوى الحرية والتغيير في حينها ولذلك رفض أركو مناوي في مقالته القصيرة التي جاءت في الفقرة الأولى تلك القسمة واقترحت أو اشترطت أن تذهب 35% من السلطة الانتقالية للقوى التي تحمل السلاح وهي مطالب موضوعية بالنظر لأهمية الاستجابة لمطالب وقضايا هذه القوى وتأثيرها على مستقبل الاستقرار في البلاد.. وحركة مثل التي يقودها عبد الواحد محمد نور تمسكت بتلابيب معسكرات النازحين مثلما تمسكت قوى الحرية والتغيير بالشارع في الخرطوم.. لا الشارع في نيالا وزالنجي وكادقلي وقلع النحل والقرير وسودري.. وحركة تحرير السودان بقيادة أركو مناوي تطور خطابها السياسي خلال السنوات الماضية، وبعد أن كانت حركة أقرب لتمثيل مصالح قبيلة واحدة في دارفور “الزغاوة” انفتحت الحركة إلى المجتمع العريض.. وشارك طلاب ينتمون لها في حراك الشارع بالجامعات في كل السودان وحاولت النخبة الحاكمة في عهد الإنقاذ محاصرة الاحتجاجات “جهوياً” واستخدمت “فزاعة” غرب السودان والقوى الجهوية والكتلة السوداء المتربصة بالعروبة المزعومة لتحريض سكان السودان النيلي ودفعهم لمناصرتها ومحاولة”خلق” اصطفاف في الساحة يمد عمرها ويبقيها على السلطة، إلا أن شعارات أبناء السودان النيلي مثل “العنصري المغرور كل البلد دارفور” جعلت الوجدان القومي يتوحد في الشارع المعارض والمناهض لبقاء الإنقاذ حتى سقطت.. وساهمت مدن عطبرة والخرطوم وشندي في نجاح ثورة الشباب، حيث تفاجأت السلطة بأن المعارضين لها خرجوا من من تعتبرهم “أعز ما تملك” وحيث تؤمّن نفسها!!

ولكن بعد نجاح الثورة، عادت النخب إلى ضعف بصرها وعشى بصيرتها وتجاهلت قضايا الهامش في سياق بحثها عن حل مشكلاتها..

(3)

أمضى نائب رئيس المجلس العسكري يومين ما بين عاصمة دولة تشاد انجمينا وعاصمة دولة إريتريا “أسمرا” في مهمة لم يكشف بعد عن طبيعتها، هل لمناقشة القضايا الثنائية بين السودان وتلك البلدان، وهي قضايا تطغى عليها “الملفات الأمنية” أم لها صلة وثيقة بالمفاوضات مع الحركات المسلحة؟؟ في انجمينا جرت مفاوضات وراء الجدران الصامتة وفي سرية كاملة حول قضايا طبيعتها معلنة.. لأن الحرب التي جرت كانت على أرض مفتوحة.. اختلفت تقديرات ضحاياها ما بين “مليون” قتيل في دارفور وما بين “10” آلاف قتيل كما جاء على لسان الرئيس السابق عمر البشير، وهو يتحدث بصيغة التقليل من عدد الضحايا مقارنة بما تواتر في أجهزة الإعلام العالمية.. وشاركت حركتا تحرير السودان والعدل والمساواة في مفاوضات انجمينا.. بوفد رفيع مثله مني أركو مناوي، وكبير مفاوضي العدل والمساواة أحمد تقد لسان، بينما غاب د. جبريل إبراهيم عن تلك المفاوضات والرجل يضمر في نفسه شعوراً سالباً عن ابن عمه الرئيس التشادي إدريس دبي وتعتري جبريل شكوك عن ضلوع إدريس دبي في مقتل شقيقه د. خليل إبراهيم.. ومناوي الذي صعد على ظهر عربات اللاندكروزر ذات الدفع الرباعي وخاض غمار المعارك بشراسة بعد إن كان “تاجر شنطة” بين دول نيجيريا والكاميرون والسودان، فإنه يواجه أحد أقرب عرب بادية دارفور لعشيرته الزغاوة، والجنرال محمد حمدان حميدتي الذي ينتمي إلى عشيرة أولاد منصور أحد بطون قبيلة الرزيقات الماهرية تشارك عشيرته قبيلة الزغاوة رعي الإبل في بادية الصحراء الشمالية.. وبينهما حروب ومصاهرات وتعايش وتبادل منافع.. بل دولة تشاد التي جمعت بين مناوي وحميدتي يتقاسم حكمها الزغاوة والرزيقات وعرب خزام.. ويتولى ابن عم حميدتي منصب وزير الدفاع، بينما يتولى وزارة المالية أحد قيادات عرب خزام في دولة تشاد التي تحترم التعدد والتنوع.. ولا يجد إدريس دبي حرجاً في تعيين أبناء تشاد دون عزل، وإذا كان مناوي قد بعث بمن يمثله للخرطوم “التوم هجو” الذي أحدث هرجاً ومرجاً في الساحة، وجاءت قرارات إطلاق سراح السجناء والمعتقلين والأسرى كخطوة نحو الاتفاق سياسياً بين المجلس العسكري والحركات المسلحة، فإن الطرف الآخر من المعادلة السياسية ونعني بها “قوى الحرية والتغيير” لا تهتم كثيراً بمثل هذه القضايا، بل تستغرقها حالة “الشد والجذب” مع المجلس العسكري بحثاً عن “الوزارات” والمواقع!! وبعيداً عن “مماحكات” التفاوض يحدث اختراق انجمينا في انتظار تحلي المجلس العسكري بالشجاعة والإقدام على التفاوض مع الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز آدم الحلو باعتبارها الحركة “الأكبر” والبندقية الأكثر تأثيراً.. رغم مواقف الحلو المعلنة المطالبة بدولة علمانية كاملة.. وهو يعلم جيداً ان مثل هذا القرار لن يتحمل نتائجه إلا رجل مسنود بقوة داخلية وخارجية مثل الفريق حميدتي الذي يمثل الوجه المناسب للتفاوض مع الحركات المسلحة رغم تعدد المزالق التي ينصبها رجل مثل عبد العزيز يقف من ورائه نخبة من القادة العسكريين “جقود مكوار وحمزة الجمري ورئيس أركان الجيش الشعبي” ومن القادة السياسيين كوكو جقدول وكامل كوة مكي” فقد اختار الفريق حميدتي جنرالات لهم خبرة في الحرب والتفاوض، ولكن هل تقبل الحركات المسلحة على مهر اتفاق سلام مع المجلس العسكري الذي – على الأقل خمسة من أعضائه الحاليين هناك اتفاق عام على ضرورة وجودهم خلال الفترة الانتقالية وبطبيعة الحال الخمسة هم الفريق البرهان ونائبه حميدتي والفريق الكباشي والفريق ياسر العطا ورئيس اللجنة الأمنية جمال عمر..

ولكن هل قوى الحرية والتغيير مستعدة نفسياً لقبول قوى الهامش بشروط مني أركو مناوي؟؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى