خرجت من كل فجٍّ وفتكت بالمواطنين .. جيوش العقارب تغزو “حلفا “

 

وادي حلفا: انتصار فضل الله      12   يونيو2022م

في أقصى شمال السودان توجد مدينة “وادي حلفا” التي أطلق عليها البعض مؤخراً مدينة “العقارب” بسبب كثرتها وتسبيبها للموت بضراوة.

وشكا مواطنون من سيطرة جيوش العقارب على أراضي المدينة خلال الفترة الأخيرة، وقالوا إنها انتشرت على غير المعتاد وبثت سمومها على الكافة مسببة الموت للأطفال ولكبار السن، وأوضحوا أنهم فشلوا في محاربتها والقضاء عليها وأطلقوا نداء إغاثة للحكومة الاتحادية.

عادة ما يتم محاربة هذا النوع القاتل عن طريق عمليات “الرش”، لكن يبدو أنه لا يوجد تفاعل تقريباً من الجهات الصحية بالمحلية وفقاً لحديث البعض .

مع ظهور موجة انتشار العقارب التي تخرج من كل فجٍّ في أحياء المدينة، يبدأ الصراع الحقيقي بينها والإنسان، ما تسبب في هجرة الكثيرين لمنازلهم هروباً من اللدغات القاتلة والانتقال إلى مناطق أخرى أكثر أمناً واستقراراً بسبب تفشي الظاهرة، حدث انخفاض حاد في مستوى الإقبال إلى المدينة وتسبب في أحزان وإصابات وحالات وفاة.

إذن لماذا تهاجم “العقارب” السكان في الولاية الشمالية؟ وما أسباب وجودها، وكيف تعاملت السلطات الصحية مع هذه الكارثة؟ وكيف واجه المواطنون الخطر؟

إصابات ووفيات

في صباح الأحد الماضي، السادس من يونيو الجاري، استيقظ سكان المدينة على صوت صراخ كان مصدره منزل أحد السكان، توفت طفلته ذات 8 سنوات، وهي تلميذة بالصف الثالث “أساس”  بسبب لدغة عقرب هاجمتها أثناء اللعب، كما هاجمت العقارب منزلاً آخر في المدينة، وتمكَّنت من لدغ  فتاة تبلغ من العمر 14 عاماً، كانت قد جلست لامتحان شهادة الأساس قبل أيام وأودت بحياتها، لتتوالى بعدها حالات الإصابات والوفاة.

تصحوا المدينة يومياً على إصابة اثنين أو ثلاثة من المواطنين منهم من يلقى حتفه والبعض ينجو، لكم الأمر جلل، بحسب المصاب بلدغة عقرب أمس الأول، طارق الكنزي، الذي أفاد (الصيحة) قائلاً إنه دائماً  يلاحق العقرب بهدف قتلها لكنها هذه المرة غدرت به وأصابته إصابة طفيفة تم استخلاص سمها من جسده بواسطة أحد الذين يجيدون هذ العمل ولم يتطلَّب الأمر ذهابه إلى المستشفى، متمنياً أن ينتهي “تسونامي” “العقارب” الذي يؤرِّق سكان الولاية كافة.

مهدِّد أمني كبير

وفقاً لما قاله المواطن عابد حسن الأمين لـ(الصيحة): تشكِّل العقارب مهدِّداً أمنياً ونفسياً لإنسان الشمالية عامة ومدينة وادي حلفا بشكل خاص، فالمدينة تشهد حملة ممنهجة من قبل هذه الحشرات وكأنها تسعى للقضاء على كل الأهالي، مناشداً بإيجاد حلول جذرية للمشكلة التي تطل سنوياً وتقلق مضاجع المواطنين.

وأبدت المواطنة سعاد محمد سعد، تخوُّفها جراء الظاهرة التي وصفتها بـ”الغريبة ” شكت لـ(الصيحة)، من هجوم وصفته بالعنيف من العقارب على أجساد المواطنين وهي تقيم معهم داخل المنازل وفي الشوارع والأسواق والملابس، وقد فرضت سيطرتها على المدينة بالكامل.

وأضافت: في الحقيقة حلفا ليست وحدها من تعاني، بل أن الوضع في الولاية الشمالية بدأ يتأزم بسبب الإهمال وضعف آليات المكافحة، وأردفت: منذ تفشي الظاهرة فإن حركة المواطنين بدأت تتراجع بشكل ملحوظ وبدأ الخوف مرسوماً في الوجوه.

في الشوارع والملابس

تقول الرضية حمد، معلِّمة: غمرت العقارب الشوارع وبدأت تلفظ سمومها داخل أجسادهم، حيث يوجد الآلاف من العقارب يسيرون في الأرض ولا يستطيع أحد فهم  من أين تأتي، ولكن المعروف أنها تخرج من باطن الأرض والشقوق عند ارتفاع درجات الحرارة .

كل شيء تغيَّر

كانت الحياة تسير على ما يرام، لكن كل شيء تغيَّر عندما بدأ يلاحظ الناس وجود العقارب حتى على فراشهم، على الرغم من أنه كان من الطبيعي رؤيتها فقط على الأرض، هكذا تحدثت طالبة الطب في جامعة الخرطوم لمياء عباس، وهي من سكان المدينة، قائلة: هذه المرة لم تسمح عصابات “العقارب”  للمواطنين بنيل قسط من الراحة، وظلوا في تزايد وبدأ الناس يتساءلون هل هذه مرحلة وتنتهي أم لا؟

حجم الانتشار

 

تقييماً للوضع بالمدينة، قالت د.منال الفاتح صيام، أستاذ مساعد في متحف السودان للتاريخ الطبيعي، كلية العلوم جامعة الخرطوم ومتخصصة في تصنيف العقارب: تعدَّدت حالات الإصابة بلدغة العقارب في وادي حلفا لأول مرة بهذه الصورة المخيفة، حيث أصيب أكثر من (10) أشخاص، منهم (3) من الأطفال فارقوا حياتهم خلال الأسبوع الماضي، إضافة إلى إصابت (50) شخصاً، آخر تم علاجهم فوراً بعد اللدغ.

 

أوضحت منال، يحدث هذا السلوك الغريب نتيجة الجمع العشوائي وغير القانوني الذي حدث مسبقاً بمحلية حلفا خلال السنوات الأخيرة، إضافة إلى وجود  شركات التعدين التي سببت تغييراً في بيئة المنطقة التي تعيش فيها العقارب.

طفرة جينية

أشارت إلى أن العقارب تمر بطفرة جينية ومن المتوقع زيادة أعدادها حال توفرت الظروف الملائمة، حيث تزداد لدغاتها مع ارتفاع درجات الحرارة في حلفا، بالتالي تحصد أرواح الأطفال، فبالأمس، صعدت روح طفلة وتعتبر هذه الحالة الخامسة في غضون أيام قليلة فائتة رغم كل محاولات الإسعاف.

في المدينة

أضافت الباحثة: تجتاح المنطفة سنوياً موجة من حشرات “العقرب” السامة والقاتلة، حيث يوجد في السودان (18) نوعاً، من العقارب، (4) منها تعتبر الأشد سُمِّية والأكثر فتكاً بالأطفال وكبار السن وتنتشر في ثلاث ولايات، وهي: الولاية الشمالية، ولاية نهر النيل وولاية الخرطوم، وفي منطقة وادي حلفا ينتشر أكثر نوعين سامين  ”  Leurius quinquestriatus و Androctonus  niloticus ”  وتسمى بالعقرب الأصفر.

سُمِّية عالية

يتزايد نشاط العقارب، حسب د.منال،  خلال فترة الصيف، عند اشتداد الحر،    وأثناء الليل وعند ارتفاع مناسيب المياه داخل الشقوق عند ارتفاع منسوب النيل، وفيما يتعلَّق بمدى سُمِّيتها قالت:

تقوم  العقرب عادة باللدغ عندما تدافع عن نفسها ويتركَّب السم من أنزيمات ومركبات تؤثر على الجهاز العصبي، فتخدِّر الجسم وتسبب اضطرابات في التنفس وهبوط في ضغط الدم، حيث تبلغ الآلام والاضطرابات أشدها بعد ساعة من اللدغة، وتستمر لمدة ساعة أو ساعتين  وتزول كل الأعراض تقريباً بعد يومين أو ثلاثة بعد أخذ المصل المناسب.

للإجابة على استفسار حول أثر زيادة كثافة العقارب السامة بمنطقة وادي حلفا، قالت: حدثت زيادة العقارب بمنطقة وادي حلفا لسببين أساسيين هما:

الجمع العشوائي وغير القانوني للعقارب الذي تم في المناطق المحيطة بالمدينة خلال السنوات الماضية، بجمع أكثر من (5000) عقرب بغرض التجارة.

وأضافت: عند دراسة سلوكيات العقارب نجدها تتكيَّف عبر زيادة اللياقة البدنية للعقرب والتي تُقاس بالنجاح التناسلي للفرد، ما يعني زيادة إنتاج الأبناء عند الشعور بخطر فقدان النوع أو الانقراض عليه تزداد إنتاجية أعداد العقارب بحيث تتجاوز المعدَّل الأساسي المعروف في موسم التوالد. بالإضافة لذلك قد تتطوَّر هذه الأنواع وراثياً لتكون أكثر عنفاً       وقدرة وذات سمية أعلى للحفاظ على النوع ومواءمة البيئة، ودقت ناقوس الخطر، حيث ظهرت أنواع أكبر حجماً وأعنف في منطقة وادي حلفا ودنقلا، كما ظهرت أنواع بشوكتين في الذيل.

تعدين عشوائي

وقالت منال: أثَّر التعدين العشوائي الرسمي في بعض المناطق الجبلية، حيث تسبب إزالة  القشرة الأرضية، ما يؤدي إلى تقلُّب الطبقات وعدم إنبات العشب.    ولأن بيئة العقارب الأساسية هي الشقوق بين الصخور الجبلية تزداد معدَّلاتها في هذه المناطق، وعند الشعور بالخطر أو تهديد مسكنها تهرب لتستقر في مكان أكثر أمناً مثل: منازل البشر، ولأن الولاية الشمالية تذخر بالمعادن، نجد أن أغلبية شركات التعدين والتعدين العشوائي تتركز في كثير من مناطقها ما أدى لزيادة كبيرة في عدد العقارب في الأماكن السكنية.

ونبَّهت إلى أنه في حال التعرُّض للدغ من العقارب من الأنواع الأشد سُمِّية أو أن كانت الأعراض شديدة فإن الملدوغ يحتاج لتلقِّي الرعاية بالمستشفى فوراً وتلقي المصل لتخفيف الألم، وذكرت أن الصندوق القومي للإمدادات الطبية يوفِّر أمصالاً لمعالجة لدغات العقارب ويهتم بتوزيعها في الولايات المختلفة حسب الحاجة، ونوَّهت إلى أن هذه الأمصال غير مفيدة بالقدر المطلوب لعلاج لدغات العقارب السودانية وأرجعت ذلك لكونها مصممة لتعادل سموم عقارب لا تعيش في بيئة السودان ما يقلِّل من كفاءة الأجسام المضادة المستخلصة منها، مشدِّدة على استيراد أمصال أكثر قدرة على معادلة سم العقارب السودانية، مؤكدة ضعف قدرة الدولة توفير الكمية المناسبة من الأمصال للمناطق الموبوءة بصورة دورية.

بروتوكول عام

 

وتحدَّث من داخل مستشفى حلفا الواقعة أقصى الولاية الشمالية المدير الطبي د. وائل محمد شريف، قائلاً: المستشفى مصنفة “أ” تضم خمسة اختصاصيين بمختلف التخصصات وسبعة أطباء عموميين، وبها مختلف الأقسام وصيدلية وعمليات وأربعة عنابر كبيرة لاستقبال الإصابات، حيث يبلغ التردد اليومي من (4- 8) حالات.

وقال: تعمل المستشفى وفقاً لبروتوكول محدَّد، على أن تتم متابعة حالات الإصابة للبالغين لمدة 24 ساعة، وهي تتبع لوزارة صحة الشمالية، بينما تعتبر محلية وادي حلفا الداعم الأول لتوطين العلاج ودعم الطاقم الطبي.

اتفق د. وائل مع حديث منال، مؤكداً أن هذا هو موسم انتشار العقارب لطبيعة المنطقة الجبلية، مؤكداً توفر الأمصال. وقال: هناك نوعان “مصل هندي” يحفظ في درجة حرارة الغرفة، وآخر يحفظ في ثلاجات التأمين الصحي، بدأ استخدامه خلال الأيام الماضية، موضحاً أن كل الأدوية تأتي عبر الإمدادات الطبية بالولاية.

اعتقادات غريبة وخطط

 

قال المدير الطبي لـ(الصيحة): هناك ثلاث حالات وفاة اعتبرها حالات مخالفة للبروتوكول، إذ أن أسرهم لجأت إلى علاج “الفقراء والدجَّالين” من ثم أحضرتهم إلى المستشفى في وضع ميؤس منه قد تمكَّن منهم السم ما أودى بحياتهم،

مؤكداً توفر الخدمة بالمستشفى ٢٤ ساعة، مناشداً المصابين المكوث في المستشفى لتفادي مرحلة الخطر     .

وأمَّن د. المعز مجذوب عبد الرحمن، مدير إدارة الإحصاء بالمستشفى، على ضرورة اتباع توجيهات الأطباء، وقال لـ(الصيحة): لا توجد ميزانية خاصة بالمستشفى وكل الأنشطة يتم تمويلها من المحلية، مشيراً إلى استلامهم مبيدات للعقارب من صحة الولاية أمس، معلناً  عن تنفيذ حملة رش لأحياء المدينة الأسبوع القادم، وعن خطة سيتم رفعها للمحلية حتى تجاز بهدف المكافحة.

فيما أكدت مصادر من وزارة الصحة الاتحادية وأخرى من وزارة صحة الولاية الشمالية متابعة الوزارة الدقيقة لقضية عقارب حلفا، وأشارت إلى وجود معالجات.

من الصحيفة

أصبح المواطنون في حيرة من أمرهم، هل تستمر هجمات العقارب طويلاً أم لا؟  فمع تغيُّر طبيعة المنطقة في فصل الصيف، ما زالت المعاناة كبيرة تتطلَّب تضافر الجهود للقضاء على الظاهرة في المدينة التي ما زالت مأهولة بالسكان، فالمواطنون في كل متر يرون هذه الحشرات ذات الأرجل المتعدِّدة والشوك المرفوعة معلنة جاهزيتها للهجوم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى