الموقف الدوائي.. جائحة الأمراض المزمنة

بسبب سياسات الاستيراد

 

تحقيق: منال عبد الله

على الرغم من أن الأدوية والعقاقير الطبية المختلفة تستخدم في الأساس لإنهاء معاناة الناس من المرض وتخفيف آلامهم وأوجاعهم، إلا أنها أصبحت مؤخراً بيت الداء بسبب الأزمات المتلاحقة التي باتت تضرب سوق الدواء في السنوات الأخيرة وتفاقمت خلال الأشهر الفائتة جراء الارتفاع المستمر في سعر الدولار الأمريكي مقابل الجنيه، فضلاً عن أن الموقف في استيراد الدواء يشهد حالة شد وجذب فبينما يتمسك مجلس الصيدلة والسموم بأن تتم تسعيرة الدواء وفقاً لسعر الدولار لدى البنك المركزي، تؤكد شركات عاملة في استيراد الأدوية على أن الأخيرلا يوفر لهم الدولار مما يضطرهم إلى شرائه من السوق الأسود.

(الصيحة) سعت إلى تشخيص الأزمة مجدداً من قبل الجهات ذات الصلة للكشف عن الإرهاصات التي يمكن أن تترتب على الإجراءات التي تم اتخاذها عالمياً لمجابهة جائحة (كرونا) بإغلاق الحدود والمطارات والموانئ ومعرفة الموقف الراهن في سوق الدواء، وما إذا كانت هنالك نذر فجوة أعمق في هذا الجانب، خاصة وأن الصيحة تلقت بلاغات كثيرة من مرضى مصابين بأمراض مزمنة فشلوا في الحصول على الدواء وباتوا يواجهون شبح الموت..

 أسباب معروفة

أكدت جميع المعلومات التي تحصلت عليها (الصيحة) من معظم الجهات ذات الصلة بالأدوية في القطاعين الحكومي والخاص على أن سوق الدواء يعاني من أزمة وشح وندرة حقيقية في العقاقير بصورة عامة والمنقذة للحياة على وجه الخصوص، واتفقت جميع الجهات على أسباب محددة ومعروفة لدى الكافة، ويأتي ارتفاع سعر الدولار في مقدمة الأسباب التي أدت إلى تشعب الأزمة واستمرارها إلى أشهر طويلة، حتى إن معظم الشركات التي كانت تعمل في مجال استيراد الأدوية من الخارج توقفت عن العمل بسبب التضاد والخلاف حول تسعيرة الدواء بين الشركات ومجلس الصيدلة والسموم.

وفيما يتمسك المجلس بأن تبيع الشركات الدواء بسعر بنك السودان المركزي، يؤكد وكلاء شركات على أن الأخير لا يوفر لهم الدولار بالسعر الرسمي لكي يتمكنوا من استجلاب الأدوية، ما يضطرهم إلى شراء الدولار من السوق الأسود، الأمرالذي يجعل إمكانية بيع الدواء بالأسعار التي يحددها مجلس الصيدلة مستحيلاً، وأقر وكلاء شركات في حديثهم للصحيفة بوجود أدوية ومستحضرات طبية في المخازن وفضلوا احتكارها دون بيعها للصيدليات بالخسارة.

ندرة مستمرة

وجزم دكتور آدم علي ـ يدير صيدلية في الخرطوم ـ بأن الموقف الدوائي المتأزم بالبلاد مستمر منذ عامين قبل سقوط نظام البشير، وحتى الآن وأن الندرة التي كانت موجودة بسوق الدواء قبل ظهور جائحة كرونا وقبل إغلاق الموانئ والمطارات هي ذات الندرة والفجوة في العقاقير الضرورية والمنقذة للحياة، فضلاً عن أن الإجراءات الاحترازية لمجابهة الكرونا جعلت الإقبال على الصيدليات ضعيفاً، الأمر الذي أكد عليه كذلك طبيب صيدلي بشارع الحوادث بالخرطوم بحدوث شلل في حركة شراء الدواء من قبل المواطنين خلال الفترة الحالية، وعزا ذلك إلى توقف المستشفيات عن استقبال الحالات الباردة والعمل بأقسام الطوارئ والإصابات واستقبال الحالات الحرجة فقط، وأردف: ما في روشتات بتتكتب من قبل الأطباء في الوقت الراهن لحالات باردة إلا نادراً.

وكشف لـ(الصيحة) عن أن هنالك عقاقير خاصة بأمراض مزمنة مثل السلازي قاطعة من الصيدليات منذ شهر نوفمبر العام الماضي لتوقف الشركة التي كانت تستوردها عن العمل بسبب ارتفاع أسعار الدولار، وأردف أن معظم الأدوية القاطعة من العام الماضي ما زالت غير متوفرة بالسوق خاصة المنقذة للحياة، وتوقع تفاقم الأزمة بسوق الدواء وانعدام بعض الأصناف تماماً جراء إغلاق المعابر، وتوقف حركة الاستيراد، بيد أنه عاد وقال إن هنالك مخازن لشركات بها مخزون من الدواء لم يحدد نسبته، وأن بعض الشركات ما زالت تعمل وتمدنا بالدواء كما أن هنالك أدوية ما بتفطع بسهولة لقلة استعمالها من قبل المرضى.

وضع سيئ

فيما وصف مسؤول طلبيات الدواء بإحدى الصيدليات الكبرى دكتور عز الدين الموقف الدوائي بالبلاد بالسيئ، نافياً أن تكون أزمة الدواء ذات صلة بالتطورات الأخيرة بسبب جائحة كرونا، مبيناً أن الإشكالية ذات صلة مباشرة بتسعيرة الدواء المفروضة من مجلس الصيدلة والسموم على الشركات العاملة في مجال استيراد الدواء بالبلاد بسعر الدواء كما يبيعه بنك السودان المركزي، فيما أن الأخير لا يمنح الشركات النقد المطلوب للاستيراد مما يدفعها لشراء الدولار من السوق الأسود، الشيء الذي أدخل شركات الدواء في خسائر كبرى في الوقت الذي أحجم فيه معظمها عن الاستيراد ما تسبب في الأزمة المستمرة ـ طبقاً لحديث د.عزالدين ـ الذي أشار إلى أنه على الرغم من أن الإمدادات الطبية تستورد عقاقير الأمراض المزمنة، إلا أن فيها شحاً كبيراً جداً، فضلاً عن أن هنالك أدوية كميتها بسيطة من المفترض أن تكون موجودة في المستشفيات، إلا أنه يتم بيعها بالسوق الأسود، مؤكداً على أن الأصناف غير الموجودة حالياً من الأدوية بالصيدليات لا تحصى ولا تعد على حد تعبيره، والأزمة الواقعة حالياً لا يستهان بها بسبب أنها تعرض حياة كثير من المرضى إلى الخطر.

وأشار إلى أنه في غضون ذلك أن التصنيع المحلي للأدوية متوقف بسبب انعدام المواد الخام التي يتم استجلاب معظمها من الخارج بالعملات الأجنبية.

 صورة مأساوية

ورسمت دكتورة تسنيم ـ تعمل بصيدلية في محلية بحري ـ صورة مأساوية لموقف الدواء عموماً ووصفته بالسيئ، وقالت لـ(الصيحة): وضع الدواء متردٍ للغاية قبل الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمجابهة كرونا بسبب انعدام أهم العقاقير الخاصة بالأمراض المزمنة والمنقذة للحياة، مستشهدة بالدربات التي توجد منها بعض الأصناف غير متوفرة بالإمدادات الطبية وبخاخات الأزمة والمحاليل الوريدية الخاصة بمرضى الكلى (5050) وتساءلت ما معروف مرضى الكلى يعملوا  شنو في الأيام المقبلة؟  كاشفة أن الزيادة في أسعار الدواء مؤخراً بلغت 20% وتوقعت ارتفاعها إلى أكثر من ذلك في الـيام المقبلة بسبب الندرة.

وذكرت أن الفجوة الكبيرة في نقص الدواء من شأنها أن تعرض حياة كثير من المرضى للخطر بسبب أن بعض المرضى كانوا يعتمدون على العون الخارجي من ذوي القربى بالدول الأخرى بإرسال الأدوية غير المتوفرة بالسودان وتوقفت هذه المعونات جراء الكرونا وتوقف سفر الأفراد والجماعات بين الدول.

وجأر مواطنون بالشكوى من انعدام الأدوية التي يتعاطونها للأمراض المزمنة أبرزها الأزمة والروماتيزم والفشل الكلوي، وقال أحمد علي ـ ـحد مرضى الفشل الكلوي في حديثه للصحيفة ـ إنه وبقية المرضى يستخدمون ثلاثة محاليل وريدية في عملية الغسيل، مبيناً أن هنالك مرضى لا تستفيد أجسامهم من إجراء العملية بمحلول أو محلولين فقط، وتظل معاناتهم من الأعراض المرضية مستمرة، ونبه إل أن المحلول الثالث الأساسي لا يتوفر في العملية.

ثغرات وإشكاليات

حسناً.. إن المخزون الاستراتيجي للدواء بالبلاد غير كافٍ لمجابهة الأوضاع الجديدة التي فرضتها جائحة الكرونا من تحجيم للواردات بسبب إغلاق المطارات والموانئ، وذلك وفقاً لما رشح من معلومات، فضلاً عن الإشكاليات التي كان يواجهها الصندوق القومي للإمدادات من توفير النقد الأجنبي لاستيراد الدواء بالسعر الرسمي ببنك السودان المركزي خلال الفترة الماضية وما زلت الإشكاليات قائمة لأنها لم تحل جذرياً، أكدت دكتورة عفاف علي وجود معاناة كبيرة في استجلاب الأدوية من الخارج بسبب ارتفاع الدولار مقابل العملة المحلية، وقالت في إفادات لـ(الصيحة) حول المسألة أن الصندوق القومي للإمدادات الطبية يعمل على مواجهة شح الدواء بقدر ما يتوفر لديه من إمكانيات وبذل مزيد من الجهد في تقليل الآثار السلبية على المرضى، ونبهت دكتورة عفاف إلى أن الإمدادات تعمل على سد الثغرات التي حدثت بسبب انعدام بعض الأدوية من قبل المصانع المحلية للأدوية، فضلاً عن أن هنالك  عمليات استيراد للدواء من الصندوق تتم عن طريق الدفع الآجل، وعزت ذلك لارتفاع المستمر للعملة الأجنبية مقابل الجنيه.

 وعود ومجهودات

ونفت المدير العام للصندوق القومي للإمدادات الطبية دكتور عفاف النحاس ما يتردد حول أن أسعارالأدوية التي يتم بيعها للمستهلكين من قبل صيدليات الإمدادات الطبية بمواقع مختلفة باهظة أو أسعارها مرتفعة مقارنة ببقية الصيدليات التجارية, مشيرة إلى أنه في بعض الصيدليات ربما تشتري الدواء من تجار يجلبونه عن طريق التهريب، ولا يتم الالتزام فيه باشتراطات التخزين، لذلك يكون هنالك اختلاف في أسعار الدواء، وقطعت بأن سعر الدواء من صيدليات الإمدادات الطبية ثابت أو أقل من الأسعار في سوق الدواء بكثير جداً، منوهة إلى أن الصندوق القومي للإمدادات يسعى بكل إمكانياته إلى عدم تأثرأصحاب الأمراض  المزمنة بشح الدواء، مبينة أن الإمدادات تعمل على توفير العقاقير المنقذه للحياة ولأصحاب الأمراض المزمنة مثل الضغط والسكري والفشل الكلوي والأعصاب وعقاقير أمراض الروماتيزم، وقالت: نتلقى وعوداً من بنك السودان ووزارة المالية بتوفير العملات الأجنبية لنتمكن من توفير جميع الأدوية المطلوبة.

أزمة حقيقية

وأقرت د. عفاف بأن أزمات الدواء مستمرة وحقيقية ومعظم الأدوية المطلوبة من المرضى بالبلاد غير متوفرة في السوق، ولكنها أشارت إلى مجهودات مستمرة من قبل الصندوق لمعالجة المشكلة مع المستوردين، ولفتت النظر إلى أنه عندما تكون هنالك إشكاليات في الأدوية بالسوق تنعكس مباشرة على  الإمدادات، لأن طالبي الدواء من المرضى يتوجهون  نحوها، مبينة أن الإمدادات الطبية حالياً تغطي بنسبة 100% من الدواء المطلوب بالسوق، فيما أنه كان يتوجب عليها في وقت سابق قبل تفاقم أزمة الدواء  تغطية 60%من الدواء المطلوب على أن يتولى القطاع الخاص توفير نسبة الـ40% المتبقية، وأعربت عن أسفها لكون أن معظم المرضى إن لم يكن جلهم يتسارعون نحو صيدليات الإمدادات الطبية.

وأضافت في ختام إفاداتها للصحيفة أنه في حال توفّرت للصندوق مبالغ مالية من بنك السودان أو وزارة المالية تتم إحالتها مباشرة لشراء الأدوية المنقذة للحياة مثل أدوية الكلى والأورام والسكري أو أدوية البرامج بحسب إفادات الدكتورة، والتي أكدت على أن جميع أنواع الأدوية مهمة للمرضى ولكن الصندوق يسعى إلى توفيرالأهم من بينها والتي إذا لم يتناولها المريض قد تتعرض حياته للخطر.

 عموماً      

توصلت (الصيحة) من خلال الافادات الكثيرة التي تحصلت عليها حول أزمة الدواء من قبل خبراء ومختصين وصيادلة ومرضى أن الوضع تعدى السيئ إلى الأسوأ في سوق الدواء الذي بات يحتضر إذا لم تجد الدولة حلولاً عاجلة للاستيراد ووضع آليات محددة له، كما أن هنالك مرضى أصبح عليهم هيّناً أن تتجه الدولة  لرفع الدعم عن قطاع الدواء أو ما يسمي العلاج لكي يتمكنوا من الحصول على الدواء ولكي لا يواجهون شبح الموت البطيء ولكي يضمنوا وصول الدواء إليهم وما زال فعالاً بدلاً من شرائه من تجار الشنطة الذين لا يراعون حفظه بالمواصفات المطلوبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى