صوت الشارع الحقيقي

أمس، قال جزءٌ مقدّرٌ وكبير وغالِب من الشعب السوداني كلمته، خلال المسيرة الضخمة التي خرجت عصراً في شارع القصر على امتداده، وحول وفِي الشوارع المتفرّعة عنه، وهي من أضخم التجمّعات الجماهيرية الهادِرة التي ازدحمت بها الشوارع منذ التغيير الذي حدث بالبلاد، لم تخرُج هذه الجماهير التي زلزلت الأرض بأقدامها لتُطالِب بأن تُعطى سلطة أو تضغط على المجلس العسكري لتتقاسم معه حكم البلاد، خرجت فقط لتقول كلمتها الداوية من أجل نصرة الحق والحقيقة ودعم خطوات المجلس العسكري في الحفاظ على الأمن والاستقرار وعدم إلقاء البلاد برُمّتها إلى المجهول …

كانت الرسالة واضحة أن الشعب السوداني مُمثلاً في قِواه الحيّة وقطاعاته الفاعلة من طرق صوفية وإدارات أهلية وقيادات سياسية وحزبية وحركات مسلحة ومهنية ونقابية وشباب وطلاب ومرأة ورياضيين ومُبدعين في مجالات الآداب والفنون وممثلي الولايات والمعاشيين وقدامى المحاربين وغيرهم من الفعاليات الشعبية، هم مع المجلس العسكري في ترتيب أوضاع البلاد وقيادة الفترة الانتقالية بالشراكة مع حكومة مدنية تتشكل من الكفاءات الوطنية المستقلة، حتى قيام الانتخابات، حيث تحسِم صناديق الاقتراع السباق التنافُسي وتفرز الحكومة المفوّضة فعلاً من الشعب لتحكم بالإرادة الحقيقية للسودانيين، وتستطيع  هذه الحكومة المنتخبة تعديل القوانين وسن التشريعات والقيام بالأعباء الوطنية التي تنتظرها، ومعالجة القضايا التي تظل محل خلاف عميق بين الكُتل والأحزاب السياسية، وهي الحكومة التي بيدها كل شيء، لأنها تكون يومئذٍ صاحبة التفويض الشعبي والشرعية الانتخابية …

لا أجد بعد مسيرة الأمس مَن يمكنه الادّعاء بأنه يمتلك الشارع، فالشعب السوداني متوزّع ومتعدّد الولاءات والانتماءات الفكرية والسياسية، لا يمكن اختزاله في ما يسمى بقوى الحرية والتغيير، أو حفنة من الوجوه غير المعروفة التي طفت إلى السطح مُدّعية تمثيل السودانيين جميعاً..

هل يمكن أن نُقارن قيادات الحرية والتغيير أو ما يُسمى بتجمع المهنيين هذا الكيان المشبوه المصنوع، بالقيادات الحقيقية للشعب السوداني التي ظهرت وخاطبَت مسيرة الأمس، من السلطان أحمد دينار سلطان دارفور، والناظر محمد الأمين ترك أبرز القيادات الأهلية بشرق السودان، أو شيوخ الطرق الصوفية مثل الشيخ عبد الوهاب الكبّاشي وإخوانه من شيوخ السجادات الصوفية بثقلهم الروحي الكبير؟ هل يُمكن أن نقارن مجموعة القيادات اليسارية المُنبتّة التي لا تمتلك قواعد حقيقية، بقيادات المجتمع الشعبية ورموزه الفاعِلة في كل مجال والنقابيين والفئويين وقيادات العمل النسوي والاجتماعي ومنظمات المجتمع المدني والرياضيين والموسيقيين والدراميين والإعلاميين ورجال الأعمال والحرفيين والصنّاع والعمال الذين تقاطَروا بالأمس وملأوا الساحات والطرق في وسط الخرطوم؟

 لا يُمكن عقد المقارنة حتى، فالنبض هو نبض الشعب، والكلمة كلمته دون تزييف وتلوين وخداع، لقد ربح الشارع البيع، وكسب الجولة، فالكيانات المُزيّفة والمُعلّبة التي صنعتها السفارات وأجهزة المخابرات، لن تصمد في مواجهة هدير الشعب الذي بلغ عنان السماء، وملأ الفضاء العريض مساء أمس، فمئات الألوف التي تجمعت من كل فجٍّ عميق هي صاحبة الكلمة الفيصل التي سيكون لها ما بعدها، ومنذ يوم الأمس أصبحت شوارع  الخرطوم ليست كما تصوّرها دُعاة العلمانية الجدُد ومناهضو عقيدة الشعب وثقافته وتوجّهاته وأمنه واستقراره … صار كل شيء ساطعاً وواضحاً.. للإرادة الشعبية كلمتها وسطوتها، ولن تتوقّف المواكب والمسيرات حتى يندحر التيار اليساري العلماني، ويذهب إلى غياهب ظُلماته التي جاء منها …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى