د. عبد الله الطيب علي الياس يكتب: التجارب السياسية السودانية المعاصرة.. والدروس المستفادة

12مارس2022م

المراقب للساحة السياسية في السودان يُمْكنه أن يستشف وبكل سهولة الدروس المُستفادة من تجاربنا السياسية في السودان وهي على النحو التالي:

القوات المسلحة السودانية مع أنها مؤسسة عسكرية احترافية ممارسة لمهنتها، إلا أنها تتفوّق على القوى السياسية السودانية في الخبرة السياسية وتقنيات الحكم وتسيير شؤون الدولة بفارق شاسع جداً، فمن أصل (65) عاماً هي عمر استقلال السودان، حكمت القوات المسلحة ثلاث فترات تقارب في مجملها (52) عاماً، بينما حكمت القوى السياسية (13) عاماً فقط تخللتها ثلاث فترات انتقالية.

من خلال التجارب الطويلة في حكم البلاد رسخ في قناعات قادة القوات المسلحة أن الشعب السوداني والعالم من حوله لن يقبل بعد حكم الإنقاذ بحكم عسكري شمولي في السودان، وإن أفضل طريقة للقوات للمشاركة في حكم البلاد هي دعم التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسُّلطة، فلا يُمكن أن يحدث استقرار سياسي في بلادنا تحت حكومة شمولية.

التجارب السياسية في السودان رسَّخت في قناعات السواد الأعظم من أبناء الشعب السوداني أن أحزابه السياسية قد أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أنّها أحزاب غير راشدة وتعوزها الخبرة وتنقصها التجربة والحنكة السياسية اللازمة لإدارة شؤون الدولة وبناء نهضتها وتحقيق أحلام شعبها، وبالرغم من كل هذه الحقائق الصادمة، إلا أنّه رسخ في قناعات جميع الأطراف أنه لا يمكن أن يتراجع الشعب السوداني عن تحقيق حُلمه في التحوُّل الديمقراطي القائم على التوافق السياسي والتراضي الوطني.

فتجربتنا الأخيرة رسَّخت في قناعات السواد الأعظم من ثوار بلادي الشرفاء أن ثورتنا حينما انطلقت بلا قيادة مأمونة، أهداف محددة، رؤية ثاقبة، رسالة سامية وبلا استراتيجية واضحة، فما حققت إلا شعارات مُعاكسة لكل شعاراتها الرائعة التي قامت من أجل تحقيقها.

فسارقو الثورات كانوا بالمرصاد لثورات شبابنا الذين يحلمون بغدٍ مشرق، دون أن يعدوا له الوسائل التي تحقق لهم أهدافهم النبيلة، لقد أفرغنا ثورتنا من محتواها حينما خرجنا تحت شعار (تسقط بس)، والسؤال الذي ينتظرنا لنجيب عليه (ثم ماذا بعد أن سقطت؟) أو حين خرجنا تحت شعار (لا تفاوض.. لا شراكة.. لا شرعية) وهذا أيضاً شعار أجوف أعدّه لصوص الثورة المحترفون الذين يريدون أن ترعد عندنا كثوار ونتحمّل كل تبعاتها، ثم تمطر عندهم ويقبضون ثمنها بلا جهد أو ضريبة.

فتجربة الفترة الانتقالية أكدت لليسار السوداني أنه لا مكان له في الخارطة السياسية السودانية خاصةً بعد أن منحه الشعب السوداني فرصة انفرد فيها بحكم البلاد طولاً وعرضاً، فلم يقدم له سوى خطاب الكراهية، التشفي في الخصوم، ظلم عامة الناس، التجني على الأبرياء، وأخذ القانون باليد، إقصاء الشعب كله على قاعدة “من ليس معنا فهو بالضرورة ضدنا”، شيطنة الخصوم السياسيين، اتهامهم بالباطل ورميهم في السجون بلا تهم، يحدوه الأمل أن يزفهم للمقابر.

ثم فوق ذلك هدم السودان كله بلا استثناء باعتبار أن كل ما هو قائم يعبر عندهم عن السودان “الإسلاموي” كما يدعون، بدءاً بالخدمة المدنية، القوات النظامية، السلطة القضائية، النظم والقوانين، وهم يحلمون ببناء سودان علماني منسلخ عن جميع قيمه “التقليدية البالية”، كما يعتقدون، ومتسربل بكل قيم التفسخ والعلمانية والحرية التي لا تراعي ديناً، ولا أخلاقاً أو عرفاً.

أكّدت لنا تجاربنا السياسية أن أول ما يجب أن نبدأ به لإصلاح أحوالنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، هو أن نعمل بجد واجتهاد على إصلاح وحدتنا الوطنية من خلال مُصالحة وطنية شاملة لكل جهاتنا، أعراقنا، إثنياتنا، قبائلنا وطوائفنا، فقدرنا الذي جمعنا في وطن واحد يحتم علينا أن نتعاون لا أن نتعادى، أن نأتلف لا أن نختلف، أن نتقارب لا أن نتباعد، أن نخلص لوطننا، لا أن نخونه ونكيد له بسبب أننا نختلف مع مَن يحكمنا، فما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، يجمعنا دين عظيم، وطن غني، لغة ثرة، ثقافة جذورها ضاربة في القيم والأخلاق، وتجمعنا أواصر القربى والأرحام.

الحكمة تقتضي أن نحافظ على جيشنا وكل قواتنا الأمنية فهي صمام أمان بلادنا، لا أن نعاديها ونساعد أعداء أمتنا على هدمها، فهدم قواتنا هو هدم لقوتنا، أمننا، سلمنا، سلامتنا، حاضرنا ومستقبلنا بل كسر لشوكتنا التي تحمي وحدتنا الوطنية وتصون مواردنا الغنية.

الحكمة تقتضي أن نترك التشاكس السياسي والعداوات الحزبية، وأن نتفق على وحدتنا الوطنية ونتراضى على عقد اجتماعي جامع مانع يجمعنا ولا يفرقنا، يحكم قوانيننا ويحوكم دولتنا، يرسم لنا الطريق لنحتكم لشعبنا فهو الذي يملك حق اختيار مَن يحكمه وكيف يحكمه، فإنه لا مناص لنا إذا أردنا أن لا نقدم وطننا لقادة دول العالم الذين يريدون أن يبنوا أوطانهم من مواردنا، أن نسير معاً في طريق الوحدة الوطنية والبناء الدستوري والقانوني المؤسسي، وأن نرضى بخيارات شعبنا وندعم جميعاً الحكومة التي يختارها الشعب بكامل إرادته، وأن نُراقبها جميعاً ونحملها على تنفيذ البرنامج الانتخابي الذي اختارها الشعب على أساسه، وأن نحارب سوياً الفساد والمحسوبية وتجاوز الدستور والقانون والأنظمة الوطنية التي تم التوافق عليها مسبقاً.

والسلام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى