مُنى أبو زيد يكتب : صفحة من كتاب..!

“لي من سليمان الحكيم مروءةٌ، في قوةٍ ليست تُسيء لنملة.. ومحمدٌ كلٌّ وحُبٌ كُلُّه، فإذا كَرِهتَ خَسرت حُبكَ كُلَّه”.. الشاعر أحمد بخيت..!

على هامش جلسة تصوير تخص مادة تلفزيونية قصيرة، وفي صالون بيته العامر، سألت سعادة المشير عبد الرحمن سوار الدهب – رحمه الله – عن بعض الذكريات الخاصة بجوانب إنسانية لا تُنسى في مراحل علاقته بالرئيس الراحل “جعفر نميري”، وكيف أثر موقفه العسكري والسياسي على طبيعتها، وكيف تأثّر كل منهما بمجريات الأحداث السابقة وتداعيات وردود الفعل اللاحقة. فحكى لي – في تأثر واضح وصراحة لم يكن هنالك ما يجبره عليها – ثلاثة مواقف..!

كان الرئيس “جعفر نميري” في أمريكا، يستعد للسفر إلى باكستان عندما وقع الحدث المفاجئ فهبط بمصر، وهناك استبقاه الرئيس المصري الأسبق “محمد حسني مبارك” واتصل بالمشير “سوار الدهب” وطلب أن يسمحوا له بالعودة. وكل هذا معلوم وجله موثق، لكن المشير “سوار الدهب” أكد في روايته ما تم تداوله عن إصرار الرئيس “نميري” الشديد – وقتها – على إرجاع مبلغ من المال “أقل من عشرة آلاف دولار” كان قيمة نثرية ومصاريف رحلة سفره إلى باكستان..!

ثم قال المشير “إن أول لقاء جمع بيني والرئيس الراحل “جعفر نميري” – بعد الانقلاب – كان في المشاعر المقدسة. كنا في دعوة مشتركة إلى الحج “وكان الملك فهد بن عبد العزيز – رحمه الله – يقيم دعوة غداء في “منى”، قبل رمي الجمرات الثانية”، وهناك احتكت كتفي بكتفه ونحن على باب الخروج، فسلمت عليه، فرد السلام بحرارة شديدة، ولم أكن أتوقع ذلك. وهنا تهدج صوت المشير “توترت عضلات وجهه، وغامت عيناه، ثم صَمَتَ لبرهةٍ ثمينةٍ، خلتها دهراً” قبل أن يقول “عند عودتنا إلى مدينة جدة بعد أداء مناسك الحج، كانت استضافتنا في ذات الفندق، وكنت يومها خارجاً إلى البهو, فوجدت الرئيس “نميري” واقفاً وسلمت عليه، فسلم عليّ بذات الحرارة والمَوَدّة، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت العلاقة بيننا أقوى مما كانت، قبل حدوث الانقلاب..!

لبعض الوقت ظن الرئيس الراحل جعفر نميري أنني قد خُنت عهده، لكنه تفهّم الأمر فيما بعد. وأذكر أنني قبل أن يبدأ كل شيء اتصلت بقائد حامية “أم درمان” وطلبت منه أن يرسل سرية تحرس بيت الرئيس في “ود نوباوي”، وجاءت بعدها مظاهرات ضخمة وحاشدة تستهدف بيت الرئيس، ولولا تلك القوة لما بقي بيته في أمان. ثم ملأت الدموع عينا سعادة المشير- والله على ما أقول شهيد – وهو يقول “شعرت فيما بعد بندم شديد لأنني لم أعمل وقتها على تخصيص معاش شهري لجعفر نميري”..!

كانت هذه الفضفضة على هامش تصوير مادة تلفزيونية لا علاقة لها بكل هذا الفيض من الذكريات الحُبلى بالعواطف الإنسانية، لكنني انتهزتُ تلك السانحة للسؤال عن بعض الجوانب الإنسانية التي صاحبت ذلك الحدث التاريخي. وقد كنتُ ولا أزال دوماً أقول إن المواقف والانتماءات السياسية على اختلافها وتباينها هي – في البدء والمنتهى – حصيلة معارك ذهنية في المقام الأول، وهي نتاجٌ لسطوة قناعاتٍ على حساب قناعات. وما حديث المشير – رحمه الله – إلا تأكيدٌ لكل ذلك..!

إذن لا عداء دائم ولا وفاق دائم في عالم السياسة – هذا بدهي – بل اتحاد مصالح وتكامل أجندة. ولأجل ذلك – أيضاً – أقول إنّ الوفاق الوطني ليس حكايةً أسطورية يصعب تحقيقها على أرض الواقع، وهو أيضاً ليس عصا موسى التي تشق بحور الخلاف بضربةٍ سحريةٍ. الوفاق الوطني ببساطة هو اتفاق الفرقاء على تغليب المصالح العليا للوطن، بأفعال كبيرة تتجاوز الخاص إلى العام، والشخصي إلى الوطني. كل المواقف السياسية التي كرَّمها التاريخ قيست بجلال الأفعال وليس انتصارات الفاعلين. فهل يا ترى من مُذَّكِر؟!.

 

مُنى أبو زيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى