تركت سيرة عطرة ما زالت تتناقلها الأجيال .. الأستاذة أفندية منصور.. رائدة تعليم المرأة

كوستي.. مدينة ذات تاريخ عريض ومتجذر.. لها وضعية خاصة بين مدن السودان فهي تمثل القلب النابض تجارياً وثقافياً وسياسياً ورياضياً.. قدمت المبدعين في كافة المجالات الحياتية.. ومازال رحمها ولودا ينجب ويقدم العقول ذات الجهد الإنساني الخارق والمختلف.. ومن بين الأسماء التي قدمتها في مجال التعليم الأستاذة أفندية منصور عبد اللطيف.. وهي رمز تاريخي خالد.. تركت سيرة حياتية عطرة مازالت تتناقلها الأجيال حتى الآن.. توقف عندها الأستاذ نبيل الخير في (قروب صور ووثائق كوستي القديمة والتاريخية) على الفيس  بوك..

كتب: سراج الدين مصطفى

النشأة والميلاد:

ولدت الأستاذة المرحومة أفندية منصور عبد اللطيف في كوستي في العام ١٩١٨م وكانت الابنة الوحيدة بجانب خمسة أشقاء هم عبد اللطيف وعبد الحميد وحسن وأحمد وفتحي.. والدها منصور عبد اللطيف كان في الأصل يقيم مع أهله في الخرطوم بحري، ولما افتتح خط سكة حديد كوستي الأبيض تم نقله إلى كوستي عاملاً بورشة صيانة السكة حديد بكوستي. لاحقاً تم فصله لمشاجرته للمسؤول الانجليزي بالورشة فعمل بالدلالة دلالاً وأيضًا مؤذناً بمسجد كوستي العتيق (مسجد السكة حديد) فعرف لذلك بشيخ منصور.

تعليم البنات:

رغم أن شيخ منصور كان أمياً إلا أنه كان ذا بصيرة فقرر تعليم أبنائه الذكور وكذا بنته الوحيدة. قرار تعليم ابنته (الغريب في سياقه آنذاك) كان مثار معركة حامية دارت بينه وبين مجتمعه وأهله كذلك وهي معركة وقف بجانبه فيها  الشيخ عبد الماجد أبو قصيصة القاضي الشرعي في كوستي حينها وشهدت داره وفود رجالات البلد يحاولون إثناءه عن قراره الغريب هذا بحجة أن تعليم البنات مفسدة لهن وبدعة لم يعرفها المجتمع لكن شيخ منصور لم تلن له قناة وأرسل ابنته إلى الخرطوم بحري وألحقها بمدرسة الأمريكان (مبانيها ماتزال قائمة أمام مسجد الخرطوم بحري الكبير) وبسبب هذه المدرسة تحديداً وقف ضد شيخ منصور أخوه وأعلن مقاطعته له.

تلقت أفندية تعليمها في تلك المدرسة وعندما عادت لكوستي أنشأت بمبادرة منها مدرسة صغيرة في بيتها تحت راكوبة دعت إليها عددا من بنات البلد أخذت تعلمهن مبادئ القراءة والكتابة وشيئاً من الخياطة والتطريز.

رائدة تعليم المرأة:

الأستاذ الطيب محمد الحسن العبادي المؤرخ المعروف لمدينة كوستي يؤكد أن الأستاذة أفندية منصور هي الرائدة الحقيقية لتعليم المرأة بالمنطقة ويروي أن مفتش المركز الإنجليزي بكوستي مر في جولته التفقدية بالمدينة وهو على صهوة حصانه فوجد هذه المدرسة الصغيرة للبنات فوقف فيها وأبدى إعجابه بهذا المجهود الأهلي وكان ذلك سبباً في قرار الحكومة افتتاح أول مدرسة بنات بالمنطقة (وهي حاليًا مدرسة الشيماء لمرحلة الأساس بحي المرابيع) لتصبح الأستاذة أفندية معلمة بها.

تميزت (ست أفندية)- كما عرفت بين أهالي كوستي- بقوة الشخصية وحسن الخلق وهذا ما أقنع أولياء أمور البنات تدريجيا بإلحاق بناتهم بهذه المدرسة. في هذه المدرسة قامت الأستاذة أفندية بتدريس عدد من البنات منهن من عدن فزاملنها لاحقاً في ريادة حقل تعليم البنات ومنهن الأستاذات حلوة تبيدي وآمنة قرندة وخديجة محمد علي وفاطمة محمود جمعة وغيرهن.

دراستها بكلية المعلمات:

لاحقا أرسلت الأستاذة أفندية للدراسة بكلية معلمات أمدرمان لأربع سنوات وهي الكلية التي درست بها عددا ممن أصبحن رائدات شهيرات لتعليم المرأة بالسودان ومن هؤلاء نفيسة عوض الكريم ومدينة عبد الله عبد القادر وأم سلمى سعيد وغيرهن.. تزوجت الأستاذة أفندية في الخمسينات من رجل الأعمال المعروف الخير علي الخير وأنجبت منه ثلاثة من الأبناء هم عصام (الذي مات رضيعاً) ونبيل وناصر وكلاهما طبيب الآن، ثم انفصلت عنه وعادت لسلك التعليم مطلع الستينات.

وفي ١٩٦٥ ابتعثت إلى مصر في دورة دراسية في مادة الاقتصاد المنزلي لمدة عام بمعهد بولاق العالي بالقاهرة مع عدد من المعلمات السودانيات هن جليلة علاء الدين ونعيمة خير السيد وزينب شعرون والذوق ورقية عبد القادر.

تقاعدها عن التعليم:

تدرجت الأستاذة أفندية خلال سنوات عملها التي زادت عن الأربعين في التعليم من المرحلة الأولية إلى الوسطى ثم الثانوية فدرست بكوستي وأم روابة ومدني ومروي وشندي (كانت من ضمن مجموعة المعلمين الذين افتتحوا مدرسة شندي الثانوية للبنات مطلع الستينات)، ثم عادت إلى مسقط رأسها كوستي في ١٩٦٦ لتعمل بثانوية بنات كوستي لبضعة وعشرين عاما حتى تقاعدها أوائل التسعينات، وكانت حينها وكيلة تلك المدرسة.

شاركت كذلك بفعالية خلال السنوات في العمل العام وفي تنظيمات النساء الاتحاد النسائي واتحاد نساء السودان وقد تم تكريمها في عدد من المناسبات منها تكريم الحكومة المحلية بكوستي لها منتصف التسعينات وتم خلال ذلك إطلاق اسمها على الشارع الفاصل بين مدرسة البنات الثانوية ومركز شرطة كوستي، كما يحمل أحد فصول تلك المدرسة اسمها.

وفاتها:

قضت الأستاذة أفندية بعد تقاعدها سنوات قليلة برفقة ابنها نبيل في موزمبيق بالجنوب الأفريقي وبالتحديد في مدينة ناكالا بشمال موزمبيق وخلال إقامتها تلك أنشأت حلقة دراسية لبعض نساء المدينة المسلمات تعلمهن قراءة الأبجدية العربية وقراءة القرآن والصلاة واتسع هذا المجهود فأصبحت تتلقى دعوات من مساجد المدينة لصلاة الجمعة مع النساء والتعارف معهن- لذلك عندما جاء خبر وفاتها في السودان لاحقاً أقام المصلون بمسجد أنوار الإسلام بمدينة ناكالا صلاة الغائب عليها- رحمها الله.

توفيت رحمها الله آخر أغسطس ٢٠٠٠ عن اثنين وثمانين عامًا بمستشفى السلاح الطبي بأمدرمان ودفنت بمقابر حمد النيل بأمدرمان- تاركة خلفها سيرة وتأريخا عطرًا وعدداً لا يحصى من طالباتها وعارفي فضلها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى