تصنيف الإدارات الأهلية بين المجتمع والسياسة

تقرير: أمنية مكاوي

على مر التاريخ السوداني كانت الإدارة الأهلية كنظام حكم ابتدائي متعلق بالمجتمعات بصورة مباشرة فاعلة في إدارة الدولة ككل بشكل من الأشكال، وظلت دوماً نهباً للاستقطاب السياسي على مر الحقب والحكومات خاصة في ظل الحكم الديمقراطي، إذ ارتبط كل حزب في السودان بجهة محددة تتزايد فيها سطوة نفوذه بواسطة أنصاره من الإدارة الأهلية والعمد والنظار.

وربما كانت فلسفة القائمين على أمر الإدارة الأهلية أنهم بتقربهم للسلطة الحاكمة وانضوائهم تحت ألويتها بصورة أو بأخرى يحرزون تقدماً كبيراً في تحقيق أهدافهم المتعلقة بتنمية مجتمعاتهم لذا فقد ظلت هناك علاقة بدرجات مختلفة في القوة والضعف بين السياسة والإدارة الأهلية.

تاريخ

ومن يتتبع دور الإدارة الأهلية ودروها في قيادة المجتمعات والإسهام في الحكم  يجد أن السودان مارس هذا النوع من الحكم التقليدي منذ عهود السلطنات القديمة كالفونج والعبدلاب والتنجر وتقلي والمسبعات، مروراً بسلطنة دارفور، ثم جاءت الأنظمة من بعد، واعتمدت عليها في إدارة القبائل والمجتمعات المحلية، بدءاً من الحكم التركي الذي لجأ إلى هذا النوع من الحكم لقلة تكلفته وقبوله من المواطنين، بعده جاء حكم المهدية الذي اختار قيادته من زعماء القبائل التي بايعت إمامها محمد أحمد المهدي، وناصرته في ثورته ضد المستعمر، واستمرت هذه الحال حتى مجيء الاحتلال الإنجليزي الذي قنن الإدارة الأهلية وعمل على تطويرها ما يشير بجلاء إلى أن تجربة الإدارة الأهلية في قيادة المجتمعات راسخة في السودان.

غير أن تعاقب الأنظمة السياسية والاستقطاب الكبير الذي تعرضت له خلال فترة الحكم البائد أدت لتفريخ العديد من المشكلات فيها، الأمر الذي جعلها تميل للسياسة أكثر من العمل على إدارة مجتمعاتها.

واقع

ويشير الواقع إلى أن الإدارة الأهلية في ظل النظام البائد لعبت أدواراً كبيرة في تحييد المجتمعات تجاه سياسات نظام الحكم القديم.. لدرجة جعلت رئيس مجلس الوزراء د. عبد الله حمدوك يخرج بتصريحات أمس الأول لصحيفة “السوداني” ينتقد فيها تصنيف الإدارات الأهلية كمكون سياسي ويقول إنه ليس من أنصار تصنيف الإدارة الأهلية سياسياً التي ينبغي التعامل معها كمكون وطني يمكن أن يلعب دورًا مهماً في رتق النسيج الاجتماعي.

صراعات

قد يكون تصريح حمدوك مفهوماً في هذا التوقيت بالتحديد، إذ انفجرت فيه كثير من الصراعات القبلية في كافة أنحاء السودان لدرجة تكاد تكون عمت كل الجهات إذ لم يسلم منها غرب السودان أو شرقه أو شماله حتى البعيد عن الإحن القبلية سيما وأن دور الإدارة الأهلية كان ملحوظاً في ظل النظام البائد خاصة في ولايات الشرق ودارفور والقليل في شمال السودان، الأمر الذي جعل الخلافات القبلية التي ظهرت عقب نجاح ثورة ديسمبر تأخذ طابعاً سياسياً بعد بروز الإدارات الأهلية كتنظيمات سياسية لها رأيها في الشأن السياسي.

خلل في المفهوم

من الواضح أن تحول الإدارات الأهلية من أجسام إدارية معاونة للقاعدة الحكومية الملتصقة بالجماهير إلى تنظيمات سياسية قد منحها حقا أكبر من المفهوم الذي قامت من أجله.

وقد أشار رئيس الوزراء د. حمدوك لذلك عندما قال إن دور الإدارة الأهلية يجب أن ينحصر في القضايا الاجتماعية، لكن الواقع يخالف ذلك إذ ظلت على الدوام فاعلة في القضايا السياسية الكبرى والتي كان آخرها مشاركتها الواسعة في مفاوضات سلام جوبا مؤخراً وربما أعاد ذلك إلى الأذهان تساؤلاً حول التحدي الكبير الماثل أمام الحكومة الانتقالية ومدى قدرتها في إعادة الإدارات الأهلية من لعب دور التنظيم السياسي إلى لعب الدور الوطني المنوط بها ومدى قبول الإدارة الأهلية بتصريحات رئيس الوزراء التي ستجردها بالتأكيد من بعض الامتيازات السياسية التي كان يحصل عليها القائمون على أمر الإدارة الأهلية خاصة خلال فترة الحكومة السابقة.

أشواق

حمدوك يريد من الإدارة الأهلية أن تظل فاعلة في المجتمع على أن تنصرف للعب أداور تعمل على رتق النسيج الاجتماعي والإسهام في تكريس السلام والمصالحة، وربما حملت مبادرته الأخيرة ذات الأشواق التي يتحدث عنها، فقد استصحبت كافة  المكونات المجتمعية لأهمية دورها في استقرار المجتمعات وتجسير التواصل بينها وتأسيس التعايش السلمي باعتباره السياج الذي سيحمي عملية الانتقال ويؤمن سلاستها، لكن ربما اصطدمت رغباته وأشواقه بطموحات العمد والنظار وغيرهم من مستويات الإدارة الأهلية خاصة في ظل غياب هياكل السلطة المحلية الملتصقة بالجماهير، الأمر الذي يحتم أن يبدأ العمل في تأسيس وهيكلة الدولة على أسس جديدة تبدأ من المستويات الدنيا التي تجعل ظل الدولة قريباً من المواطن ولا تجعله نهباً لأهواء الإدارة الأهلية التي بلا شك تستقوي بسلطة الجماهير.

وضع قانون

اعتبر القيادي بالجبهة الثورية عبد الوهاب جميل كبير مفاوضي مسار الشرق في تصريح لـ(الصيحة) أن الإدارة الأهلية لعبت أدواراً سياسية كبيرة منذ تكوينها إبان فترة الاستعمار ومروراً بكل الحكومات التي أعقبت الاستقلال، كونها كانت تعامل الإدارات الأهلية كمكون سياسي، ويقول: “هذه حقيقة لا يستطيع أحد أن ينفيها ولا يمكن أن نتجاوزها سواء كانت في شرق السودان أو غيره”، ورغم قناعة جميل بأن دور الإدارة الأهلية يجب أن ينصرف إلى أعمال أخرى وأن لا تكون أجساماً سياسية إلا أنه يؤكد أن دور الإدارات الأهلية كمكونات سياسية لا يمكن التخلص منه بين يوم وليلة، ويؤكد أهمية وضع قانون يوضح دور النظارات الأهلية وصلاحياتها من واقع أن عملها يرتبط أيضاً بالقانون، وقال “نحن مع تصريح حمدوك لكن بقانون يوضح دور الإدارات الأهلية لأننا إذا اكتفينا بهذا التصريح نكون قد خالفنا الحقيقة والواقع”.

الاستقطاب السياسي

واعتبر المحلل السياسي د. الفاتح محجوب في تصريح لـ(الصيحة) تصنيف رئيس مجلس الوزراء د. حمدوك للمكونات القبلية بأنها مكون وطني وليس مكوناً سياسياً تصنيفاً سليماً، لأن هذه المكونات حتى لو كان  لبعض تحركاتها جوانب سياسية لا يصح أن يتم تصنيفها بغير أنها مكون وطني لتقليل الاستقطاب السياسي.

وأضاف محجوب في حديثه، أن الإدارات الأهلية مهمتها فقط تقوية النسيج الاجتماعي وفك الصراعات القبلية، وعلى الإدارات الأهلية التعامل مع هذا التصنيف بالحكمة، لأن الإدارات الأهلية أصلاً تقود مكونات وطنية وليست سياسية، وأنهم فقط يتصدون لمطالب أهلهم وقبائلهم لكنهم لا يعبرون عن أي تنظيم سياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى