صديق البادي يكتب :جلسة مع الراحل الطيب مصطفى قبل ربع قرن بود مدني (2-2)

وقلت له إن أستاذاً جامعياً من حملة شهادة الدكتوراه أنتدب للعمل مديراً أو أميناً عاماً لإحدى الهيئات بعقد وراتب قدره تسعة آلاف جنيه في الشهر وعلم فيما بعد أن مديري هيئات مماثلة بذات الوزارة كانوا يعملون بالخارج أو انتدبوا من الداخل تم التعاقد مع كل منهم بخمسة وعشرين ألف جنيه في الشهر رغم أن مؤهلاتهم وخبراتهم أقل منه والفرق بينه وبينهم أنه لا ينتمي للتنظيم، وتساءل هل في هذا عدالة في ظل نظام يرفع شعارات إسلامية ويستعملها عدة شغل كما يستعمل النجار أدوات النجارة ويستعمل من يبني أدوات البناء، وامتعض الباشمهندس وقال لي إن أي نظام في الدنيا فيه مثل هذه الأشياء وهذه ترهات وسفاسف وصغائر أمور والمشروع الإسلامي أكبر من ذلك وسننطلق به في آفاق الدنيا الرحبة. واستطردت قائلاً: إننا أصحاب الأغلبية ولنا حقنا الذي ينبغي أن نناله كاملاً غير منقوص وأن علينا أن ندافع أكثر عن حقوق الأقليات وينبغي أن تنالها كاملة غير منقوصة وهناك مشتركات تجمع بين الجميع بحكم المواطنة التي تظلنا جميعاً. وأن للمجتمعات قانون تطور يجب عدم القفز فوقه.. وشوقي في همزيته التي مدح فيها حبيبنا وشفيعنا خير البشر أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال شوقي (داويت متئداً وداووا سراعاً وأخف من بعض الدواء الداء)، وسألته هل وقفت على تاريخنا الاجتماعي وبدأت أذكر له بعض المراجع مثل حقيبة الذكريات للبروفسور عبد الله الطيب وملامح من المجتمع السوداني للأستاذ حسن نجيلة وكتاب الأنداية للأستاذ الطيب محمد الطيب، وقبل أن أستطرد بدا عليه الغضب وأخذ يتمتم بكلمات غاضبة أعوذ بالله أعوذ بالله (كمان جابت ليها أنداية!!)، وهنا استأذنت منه وانصرفت وخرجت بانطباع إنه إنسان متصالح مع نفسه وما في نفسه يكون على طرف لسانه ومثل هذا يؤمن جانبه لأنه يتصرف جهاراً نهاراً ولا يتآمر في الظلام ويضرب تحت الحزام. ومن خلال ما ظللنا نقرأ له بعد أن اتجه للكتابة بصورة راتبة نشهد بأنه وبغيرة دينية من أكثر الحريصين على الاستقامة في السلوك وصون العروض والمحارم ويشاركه في ذات الدرجة والمقدار من خلال ما ظللنا نقرأ له في الحرص علي الاستقامة وصون العروض والمحارم من منطلق ديني وأخلاقي الصديق الأستاذ صلاح الدين عووضة .

وبعد سنوات من ذلك اللقاء صدرت صحيفة “الانتباهة” وكتبت فيها عدداً من المقالات وبعد فترة ليست قصيرة أخطرت بأن الباشمهندس الطيب مصطفي صاحب امتيازها يرغب أن أكون كاتباً راتباً بالصحيفة وعليَّ أن أفاضل بين كتابة خمسة أعمدة اسبوعياً أو كتابة مقالين في الأسبوع، وطُلب مني مقابلته فقلت لهم إنني أحبذ كتابة مقالين في الأسبوع وسأشرع في ذلك فوراً وليس لي شروط ولا يحتاج الأمر لمقابلة وأخذ ورد والمهم بالنسبة لي هو مقابلة ومعانقة السيد القارئ المحترم والسنة كما هو معروف فيها اثنان وخمسون أسبوعاً أي أن ما أكتبه في العام من المقالات مائة أربعة وعند توقف الصحيفة الورقية لعدة أشهر تضاعف عدد المقالات التي أنشرها بالإنتباهة أون لاين ومجموع ما كتبته من مقالات يزيد على الألف ظللت أرسلها عبر البريد الإلكتروني وطيلة تعاوني معهم أشهد بأن التعامل راقٍ وفيه احترام بين الطرفين ولم أقابل الباشمهندس الطيب كفاحاً داخل الصحيفة أو خارجها ولكن في إحدى المرات أخبرني الصديق العزيز الأستاذ كمال عوض مدير التحرير وقتئذ أن الباشمهندس الطيب مصطفى يود أن يتحدث معي وكتب لي رقم جواله وعندما اتصلت به طلب مني أن أقفل الجوال الذي أحمله وسيتصل هو لأن الأنس سيطول بيننا وحياني تحية طيبة وأسمعني كلمات عذبة وكانت طريقة حديثه محل دهشتي وكنت أظن وبعض الظن إثم أن المسألة ستكون فيها حديث عن الانبطاح ومسائل من هذا القبيل وشكرته على ما تفضل به من كلمات طيبة وقلت إنني أحد جنود الصحيفة وأساهم بدلو صغير فيها ضمن دلاء كثيرة بعضها مشاركته أكبر وأكثر نفعاً ويوجد بالصحيفة جنود كثيرون مجهولون مرابطون لا تظهر أسماؤهم ويبذل كل منهم مجهوداً كبيراً أما أنا مثلاً فأقتطع جزءًا من وقتي وأرسل ما أكتبه بالبريد الالكتروني ومهمتي أسهل من مهامهم (والخيل تجقلب والشكر لي حماد) وذكر لي أن أمين التنظيم بحزب المؤتمر الوطني الذي كان وزيراً للأوقاف والشؤون الدينية اتصل به وكان منزعجاً بسبب مقال كتبته وذكر لي الباشمهندس أنه أعاد قراءة المقال ووجده متوازناً ليس فيه إساءة أو تجريح لأحد وتضمن أرقاماً وحقائق ومعلومات موثقة وهو يتفق معي تماماً في كل ما أوردته ولكن وفاءً بالعهد سيخطره أنه أتصل بي وتحدث معي ومرت هذه المسألة بيني وبين المهندس مر السحاب ومن جانبي لم يحرك فيَّ ما ذكره ذلك المسؤول ساكناً لأنني واثق من الأرقام والحقائق والمعلومات الموثقة التي ذكرتها وإذا رضي أو غضب فإن هذا أمر يخصه.

وتآنسنا وقلت له إن أمريكا صاحبة السطوة والقوة هي التي قررت فصل الجنوب ويؤيدها ويؤازرها منتمون لدول ومنظمات غربية كثيرة والطيب مصطفى فرد صاحب رأي وليس صاحب قرار ولا يستطيع فرد واحد ولا منبره فصل الجنوب وإذا كانت القوى والدول التي أشرت إليها آنفاً رافضة لهذا الانفصال الذي انحاز وصوت له الجنوبيون في الاستفتاء بأغلبية كاسحة وهم أصحاب القرار لما تم وقلت للأستاذ الطيب إن بعض جماعتكم الحاكمين يتسمون بقدر كبير من الدهاء ويتمتعون بقدرات في التمثيل والدراما تفوق قدرات الممثلين والدارميين الكبار مثل الأساتذة مكي سنادة وعلي مهدي ومحمد شريف علي وغيرهم وقد أنفقوا أموالاً طائلة في مشروعات باسم الوحدة الجاذبة وما دفعوه يمكن أن يعتبروه كرامة وسلامة للانفصال وهم معه مخبراً وضده مظهراً وهم على يقين أن الانفصال سيقع وعندما وقع بالفعل أخذوا يرددون أنهم سعوا للوحدة الجاذبة والجنوبيون هم الذين اختاروا الانفصال والطيب مصطفى وجماعته هم الذين نادوا بالانفصال أي أن أولئك المسؤولين اتخذوا منكم واجهة وظلوا هم وراء الستارة في المسرح، وزاد الطين بلة ذبحكم لثيران سوداء احتفالاً بالانفصال وهو أمر غريب عجيب، ولذلك وصفوكم بالعنصريين ووصفت أنت على الأخص بأنك عنصري، وبانفعال رد علي الطلاق بالثلاثة (أنا ما عنصري)، وعندما كنت أعمل بالأمارات وأعود للسودان في الإجازات كنت أزور شيخي حسن الترابي وعندما علمت مرة قبل سنوات خلت أن الإبن أو الأخ الأصغر أبوبكر دينق رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم تزوج شمالية ذهبت لمنزل شيخي حسن الترابي وهللت وكبرت وقلت نريد أن تكثر وتنتشر مثل هذه الزيجات بين الجنوبيين والشماليات وبين الشماليين والجنوبيات ومع ذلك يقولون إنني عنصري وعلي الطلاق بالثلاثة أنا ما عنصري وصهرنا وصديقنا الأستاذ أمين بناني نيو زوج شقيقتنا نتعامل معه باعتباره شقيقاً وصهراً ووالدتي رحمها الله كانت تعتبره ابنها البار ووالدي رحمه الله كان يعتبره صهره وابنه وصديقه وكانا يذهبان معاً لأي مناسبة عائلية أو اجتماعية ومع ذلك يقولون إنني عنصري.. وعندما علمت بوفاة المهندس الطيب وأنا بعيد عن العاصمة ترحمت عليه وتلوت أجزاءً من القرآن على روحه وندعو الله سبحانه وتعالى أن يغفر له ويتجاوز عن سيئاته ويجعل قبره روضة من رياض الجنة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى