علي مهدي يكتب.. دهاليز.. العلاقات السودانية الفرنسية، بالثقافة والفنون انفتحت أبوابها باريس مرة وأخرى

وإذا عدتم عدنا لها الرايات والأجراس والغناء الرشيد.

الرهان القديم المتجدد لتعزيزها العلاقات مشى على دروبها فنون الأداء، وغيرها من تواريخ وإبداعات وكأنها من الحكايات التي تردني إلى بداية دخولي لها مدائن (فرنسا) الأجمل عندي. أحبها وأعشقها بلا تردد، فيها حصلت على شارتي الأولى، وقدمتني إلى مدن اخرى، أتاحت لي فرص الوصول إلى جمهور عريض، ظل ينظر  إلى عروضي التمثيلية بفرح غامر، لا يستعجل فهم الحوارات، تكفيه إشارات الحركة والألوان، ويصيحون من عشقهم للتغيير .

والمشاهد من عندي وقتها، كانت تمور بالتصاوير البهية، صور بلا تردد او ترهل. خفاف، تتسارع رقصاً وغيره من أدوات التعبير الحركية، حكت تواريخ النجاحات الكبرى، الأمة  المروية النوبية، يوم قامت على ضفاف النيل، ممالك تماثل  أحوالها في التواريخ، وأفضل من قصر (فرساي)، وسير الأباطرة الحسان، وملوك العروش المتأرجحة بين حكم الدنيا، كل الدنيا، أو ثورات لا تترك من الناس أمير أو خادم أو ساحر، تذهب به نحو (الباستيل) السجن القصة، والنَّاس مسجونين وسجانين،  لم يبق منهم غير البرج، يمشي نحو السحاب وحيداً،  ما عاد يحيط به مبنى، وحيداً  يتأسف على ما كان يدور فيه من ثورة، قتلت ثورة، وما حدث التغيير. المباني تدرك حسنها أحياناً، وتفرح به، المبنى القديم (الباستيل) يمشي منه الشارع مستقيماً نحو النهر الأخضر (السين) العظيم، كنت  أمر على المقاهي أعبر الجسر، وأنزل قليلاً نحو المبنى الأنيق. حكاية،  أسطورة في الرسم والهندسة. عصرياً، إذا كانت كتل الحديد والمرايا والزجاج المصقول، تعطيك إدراك، إن الحجر الأزرق وغيره الصامد الصامت قديم. فتلك مفهومات يتفق عليها أحياناً بالقدر المستطاع، تتباعد أكثر، ليختلف عليها. المبنى الشاهق الأدوار، تزينه ساحة فسيحة، تظلل بعض اتجاهات، تخرج منه  شجيرات وتعود إليه مسرعة لترد الحالة الى موقعك المطل على الجسور. ماء السين يجري أو يتهادى الموج ليتأمل حسن البناء الأحدث.

باريس التي عشقتها بعدها ومشيت فيها لأكثر من أربعة عقود مضت، بنت بيننا دروب التعاون والعمل المشترك، وتلك علاقة سبقت السعي نحو الغرب الأقصى، نعمً زرت الغرب الأقرب أولاً، والفنون تأخذني سنواتي تلك فتياً، كلي أشواق للمعارف، والفيلم الكبير(عرس الزين) وقتها يمثل أفضل أشكال التعاون الفني والعمل المشترك بين الدول العربية، كان يمكن أن يمشي بالتجربة لتكرارها، أو إعادتها مع قُطر عربي أفريقي آخر. ولكن لا ظروف المعارف وقدراتها الثقافة والإعلام وقتها تسمح.  لماذا؟ لا تجد للإجابة مكاناً، كانت تلك أكثر تجربة للإنتاج الفني يومها، ولأنه عشق الغريب من أشكال الأفلام السينمائية، كان المخرج الكويتي خالد الصديق يدخل تجربته الإخراجية والإنتاجية الثانية، بعد فيلمه الأول (بس يا بحر). أول فيلم كويتي روائي يُعرض في فضاءات المعمورة، فكان أن سعى بكل جهد المبدع ثم المنتج، لرواية سيدي الطيب صالح عليه الرحمة، لتكون جسرًا يمشي عليه للعالمية. وقد كان، وكنت شاهداً عليها التجربة كلها أيام الإنتاج والتصوير وبعدها أيام وأشهر وسنوات الانتشار، وأضحى الفيلم وسيلتي لتحسين علاقاتي مع فرنسا، الفنانين والمؤسسات، والدولة الأهم. فنزلتها من عند مدينة (نيس)، أبحث عنها الأضواء على الشاطئ (اللازوردي) والمدينة المفتاح للسينما العالمية (كان) تفتح لي الأبواب، أمشي على السجادة الحمراء في قصر المهرجان القديم، إلى جوار نجوم العالم، النجمة الإيطالية (صوفيا لورين)، وأسماء لمعت في سبعينات القرن الماضي، مشينا معاً على السجادة الحمراء، وجلسنا بعدها  لمشاهدة الفيلم على شاشة فسيحة،  لامعة، تضيء وحدها، كأنها من شدة فرحي وولهي تلك اللحظة، أمشي إلى جانب النهر في مدينتي الأحب (تنقاسي). أخرج من الشاشة (الغشاشة)، أتبختر على الشاطئ (اللازوردي) .

وتلك كانت المرة الأولى التي أشاهد (الزين) الممثل وأجلس بين نجوم العالم والأسئلة تنداح بلا حدود وبعد انتظاري الطويل منذ أن انهيت آخر لحظة تصوير لي في الفيلم وخلعت (حجابي) وملابس الزين، وقد لبستها لأشهر، أمشي بها لمواقع التصوير كنت، بلا تردد.  ظننت أن هذا يساعد على تجويد الأداء . هل طابق تشخيصي ما كتبه وما كان في خاطره سيدي الطيب صالح؟ وما سمعت من العمدة سعيد ميرغني، عمدة مدينة (الدبة) يوم جئنا للتصوير في ذلك الشريط بامتداد النيل، حكى لي عنه، وأعطاني تفاصيل، أعانني على الإمساك بأطرافها الشخصية الأكثر تعقيداً (الزين) الدرويش المجنون الحنين العاشق، (الزين) الذي ما تركته في مكان إلا وكان يتبعني.  (الزين) مفتاحي لـ(فرنسا) وللغرب، أقرب وأقصى، والجسر للعالمية.

و(فرنسا) التي دخلتها من عند مهرجانها الدولي للسينما في مدين (كان )، عملت علي أن أسهم عبرها بتقديم معارف وفنون وثقافات سودانية لا لأهلها، لكن العالم منها كان قريباً ، جئتها مرارًا وتكرارًا، أحمل الأفكار،  وبنيت وقتها والآن وغداً، تتطور علاقات في مختلف مستوياتها،  ما ارتبط بالثقافة والفنون والسياسات حتى.

يوم عملت بعد انتهاء خدمتي في مكتب معالي وزير الثقافة والإعلام والدنيا (مايو) الخير والبركة، خواتيم الربع الأخير من سبعينات القرن الماضي، ذهبت (باريس) كعادتي، وكان سعادة السفير أبوبكر عثمان محمد صالح هناك، يحرس السفارة سفيراً فوق العادة ، ويبني بينها (فرنسا) الغرب علاقات عمل، فكانت مؤسسة أو شركة (آرياب) وحديث الذهب قليلا يومها، والتعدين أفكار لدى المتخصصين فحسب، وكنت قد تعرفت على نجومها الثقافة والسينما الفرنسية ، ودخلت المسارح والمؤسسات الإعلامية والثقافية. فرجعت منها مسؤولاً عن العلاقات في مؤسسة ألدولة للسينما والرئيس المدير العام سعادة اللواء تاج السر المقبول، والدنيا(مايو) حبيب، فعملت والتعابير الأحدث تزحم آفاقي. ووافق مشكوراً على بداية البحث عن فرص التعاون مع فرنسا الدولة، وكانوا في مؤسسة (الأوديكام) وهي معنية بنشر اللغة والثقافة الفرنسية لغير الناطقين بها يبحثون أيضاً عن فرص التعاون مع الآخر دون النظر للجغرافيا أو اللسان، ورجعت ومعي اتفاق هو الأول وأظنه الاخير، بين مؤسسة الدولة للسينما و(اوديكام) لتدريب السينمائيين السودانيين،  وإنتاج ثلاثة أفلام قصيرة وكانت روائية، رتبنا كل شيء، وجاء الفريق وامضوا أشهر، ودربوا وأنتجوا وأشرفوا على الأفلام، وكانت أول عمل مشترك سينمائي سوداني (فرنسي)، كان يمكن أن يمتد أكثر ويتطور، ولكن لا المؤسسة السينمائية الافضل في المنطقة بعلاقاتها الإقليمية والدولية بقيت، ولا ذهب بعدها من يبحث عن ذاك الخيط الرفيع الذي كنت ارجو له ان يكون امتن. وتلك حكاية أخرى.

لكنها (فرنسا ) الدولة ومؤسساتها الثقافية والفنية والعلمية أبانت رغبة ورغبات صادقات في التعاون. انظر الى خواتيم الربع الأخير من ثمانينيات القرن الماضي، امشي جوار المقاهي، تعال نازلا من عند الشارع الأشهر (الشانزليزيه) ، اجلس عند المقهى المقابل لأكبر لافتة إعلان  يومها في (باريس) لأول متحف للآثار السودانية

ممالك على ضفاف  النيل ، بعضها ذهب من الخرطوم ، والآخر تم جمعه بالاتفاق مع متاحف ، بعضها في المدن الأوربية، والآخر جاء من بعيد من صالات (نيويورك) ذاك كان حدث علمي فني وإعلامي كبير، وقصدنا أن تصاحب المتحف عروض فنية متنوعة في فنون الأداء. وشهد مسرح معهد العالم العربي في (باريس) أول عروض مسرحية منذ التأسيس، وغناء مجيد لمبدعي الأمة السودانية، بالعربية الفصحى والرطانة، وعربي امدرمان، ورقصات شعبية،  عكست التنوع الثقافي، وتعدد أشكال الفنون السودانية.

كل ذلك والعلاقات السياسية السودانية (الفرنسية) وقتها، ليست في ذات أجواء ليالي السودان عندها لأشهر وفِي أحسن مراكزها الإبداعية، تستعرض فخورة

بتواريخ الحضارة المجيدة، وعصر الفنون الوطنية.

وصادف أن احتفى المعهد بصدور نسخة مترجمة للفرنسية من رواية الطيب صالح (عرس الزين) في ذات الأيام، وعُرض الفيلم ودعوني وحضرت وفريق مسرح البقعة، بعد أن قدمنا فرجة (سلمان الزغراد سيد سنار) فقدمني للجمهور الذي جاء ليحتفي به وروايته الأشهر  عليه الرحمة.

تلك الأيام شكلت اضافة كبرى لعلاقات تمتد الآن وتتجدد.

قبل سنوات احتفل المعهد بذاك العرض  الشعبي الكبير . فذهبت فرقة البقعة مرة ثانية، وقدمت فرجة (بوتقة سنار) في باحة المعهد بعد ان شاركت الاحتفال باجتماعات سفراء اليونسكو للنوايا الحسنة وفنانيها للسلام.

(فرنسا)التي فتحت لنا عبر وسائلها الإعلامية أبواب حوار متصل بيننا ومبدعيها ومفكريها، خاصةً بعد الأزمات ، يوم يتعاظم العنف ، وتتوحش اللغة.

انظر بتقدير جيد لأيام قادمات مفعمات بالحيوية لفنون الأداء، لأنه كان المدخل والبوابة الكبرى لعلاقات نرجوها تذهب نحو الاقتصاد والتصنيع وما ينفع الناس كل الناس .

دهليزي يحتفي بكل جهد يذهب نحو التنمية المستدامة واستصحاب رفاه الإنسان.  نعم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى