السفير/ عبد الوهاب الصاوي يكتب.. تعقيدات الانتقال وعثرات العبور للديمقراطية (2)

تعقيدات الانتقال وعثرات العبور للديمقراطية (2)

بقلم السفير/ عبد الوهاب الصاوي

إن عملية شيطنة السياسة قد وضعت العوائق أمام إصلاح الأحزاب القديمة. كما أعطت الفرصة لفلول الإنقاذ بتضخيم مقصود لدور الأحزاب الأيدولوجية الشيوعية والبعثية والجمهورية، وكذلك المؤتمر السوداني باعتبار أن مواجهتها أسهل باستغلال الخطاب الديني ويمكن هزيمتها لاحقاً في الانتخابات. وقد كان إبعاد المعركة من ميدان السياسة تدبيراً لشغل هذه الساحة بمنظمات قحت وقياداتها التي لا حصر لها ولتضعف هذه التنظيمات بخلافاتها الداخلية وتشرذمها وينخفض بذلك صوت الثورة في الشارع. والملاحظ أن حراك فئة الشباب للتغلب على الإحباط اتجه لإقامة لجان المقاومة التي لم يُعرف لها موقف أو منهج إن كانت مساندة أو معارضة للحكومة الانتقالية. ولم يتم تنظيم انتخابات حتى الآن للاتحادات والنقابات المهنية لتظل متجزئة ومتناحرة وبلا سند وشرعية من عضويتها. كما رُفض مبدأ الانتخابات للمحليات ولجان الأحياء حتى لا يمسك الشباب والمواطنون أمرهم بيدهم وحتى يضعف التأثير الشعبي على تشكيل الرأي العام وعملية اتخاذ القرار خاصة في المدن الصغيرة والأرياف. وكان على الشباب من الأسود والكنداكات وهم صناع الثورة ووقودها في الميدان ألا يتخلوا عن واجبهم الكبير قيادة الانتقال في وقته إلى دائرة الفعل المؤثر على صناعة القرار السياسي. وهذا لا يتأتى إلا بالقدرة على التنظيم والتوعية والتعبئة. وهذا إن حدث سيكون الدافع الشعبي والشبابي الفاعل لقيام المؤتمر الدستوري الجامع والإعداد لخطوات التحول الديمقراطي، فهم الوحيدون القادرون على الاحتفاظ بجذوة الثورة وإدخال إرادة التغيير في ترتيبات العبور بالبلاد لرحاب الديمقراطية المستدامة القادرة على حماية نفسها بوعي شعبها وقوة شبابها.

إن قضية إقامة نظام ديمقراطي مستدام تعتمد أولاً وقبل كل شيء على إصلاح الأجهزة العسكرية والأمنية بإبعاد عناصر النظام البائد من المتورطين في القتل والتعذيب ومن عملوا على استغلال الولاء السياسي والفساد المالي والإداري لمصلحة النظام، ويجب تقديمهم للعدالة بلا تباطؤ. ثم التركيزعلى إعادة بناء الهياكل الإدارية والفنية للدولة بعد الدراسة المتخصصة والتقييم ثم التقويم، وإكمال الإصلاح لهذه الأجهزة بإعادة التأهيل بالتدريب والتحديث واستخدام تقانة الاتصال والتواصل السريع لتحويل الدولة إلى وحدات احترافية مهنية ومتفاعلة مع بعضها بمقدرات عالية في التنسيق والإنجاز.

ولا بد من تفعيل العمل الاستخباري والتوعوي للابتعاد بهذه الأجهزة من نشاطات الغلو في التسييس والتعويق بعدم الكفاءة أو  التآمر الانقلابى الممنهج. وعلى مستوى المجتمع يجب تجريم تشكيل المليشيات القبلية ومنع انتشار السلاح بين المواطنين بصرامة. ويمكن استبدال المليشيات إن كانت هناك ضرورة بالتنظيمات المسلحة تحت سيطرة الدولة مثل الحرس الوطنى في أمريكا أو السعودية بما يتوافق مع أوضاع بلدنا ويضع حداً للمليشيات القبلية والجهوية المسلحة المضرة بأمن واستقرار البلاد.

إن الانقلابات العسكرية لا تقوم إلا بتحريض ومساندة من جهات حزبية سياسية أو آيدولوجية مدنية. ومن أشد الأوبئة الفتاكة على القوات المسلحة القومية هى انتقال عدوى الصراعات على السلطة إليها. هو الفيروس الذي تنشط داخل منتمين سياسيين وسط الضباط يخرب انضباطهم وعلاقاتهم القوية كمهنيين مستعدين لتنفيذ الأوامر حتى إن أدى ذلك للموت. وتجعلهم متربصين ضد بعضهم بعضاً في مرحلة الإعداد للانقلاب. ثم يصدرون أحكام الإعدام ضد زملائهم ضمن ترتيبات تعسفية لما بعد الانقلاب للحفاظ على السلطة التى غالباً ما تؤول إلى قبضة دكتاتور واحد لا يحتمل شريكاً له فيها ولا يتوانى في استعمال أقسى أنواع القهر والإقصاء والتعذيب والتصفية الجسدية لحلفاء الأمس خاصة بين الأقوياء منهم من العسكر ورجال الأمن. ويكفى العسكر فخراً القيام بواجبهم المهني والوطني بحماية وحدة البلاد وتأمين حدودها وأمنها القومي بأرواحهم ووفق الدستور والقانون .

ولن تكون الدولة مدنية إلا ان كانت الخدمة المدنية فيها راسخة الأعمدة وعالية المهنية والكفاءة والانضباط وقادرة على وضع الاستراتيجيات كل فى مهنته والتخطيط وفق الإحصاءات والإرادة المخلصة عند التنفيذ والحرص على التنسيق الوثيق مع الوحدات الأخرى عند صنع القرار. ولا بد من محافظة المؤسسات على استقلاليتها من تجاذبات السياسة والمغالاة في الانتماء الأيديولوجي. وكلما كان الولاء فيها للمؤسسة واإحترام المهنة كجامع بين أفرادها والتقيد بالانضباط الوظيفى للهيكل الهرمي والعمل وفق اللوائح والقوانين، كانت الخدمة المدنية خادمة للشعب ومصالح المواطنين وقادرة بوحدتها النقابية وحراكها المجتمعي على إفشال أي محاولات لاحتكار السلطة من عسكريين أو مليشيات مسلحة.

إن للعاملين في الدولة الحق في ممارسة العمل السياسي خارج نطاق هياكل الوظيفة وزمن العمل. ولهم الحق في التنظيم النقابي للدفاع عن حقوقهم وتطوير مهنتهم بأكبر قدر من الاستقلالية والابتعاد عن الغلو في الانتماء السياسي الضار بالوحدة النقابية.

لقد آن الأوان للتفكير بجدية في العبور بالانتقال إلى الديمقراطية، ولا نجعل العبور شعاراً بلا معنى ولا إجراءات عملية. ولا بد من تصويب الحوار إلى الموضوعات الملحة لإنجاح الانتقال وأهمها صناعة الدستور الجديد الذي يجيب على سؤال كيف يحكم السودان؟ ثم نستعد لمرحلة من يحكم السودان بقبول التبادل السلمي للسلطة والاختيار بين النظام الرئاسي والبرلماني، والاختيار بين التشريع بمجلس واحد أو مجلسين، والاختيار بين النظام الاتحادي بالولايات أم المركزي بالمحافظات، والمحلي بالبلديات والمحليات. ومن الضرورات العاجلة تشكيل لجنة للانتخابات والقيام بالإحصاء السكاني وتسجيل الناخبين واختيار النظام الانتخابي على المستويين القومي واللامركزي بالدوائر الجقرافية أم التمثيل النسبي أم هجين بينهما وكيفية الاستفادة من تجارب الدول الأخرى لاختيار النموذج الذي يناسب الأوضاع في بلادنا. ويجب أن نتوافق على أن المنهج القويم لحرية الاختيار والتبادل السلمي للسلطة هو ورقة الاقتراع التي توضع بهدوء ومراقبة في صندوق الانتخابات. والبديل لهذا الهدوء والسلمية هو المسخ الماثل كالاشباح هو الانقلابات والمليشيات والحروب الأهلية التي لا تبقي ولا تذر.

ونسأل الله التوفيق .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى