محمد صلاح أحمد يكتب..  إعفاء طلاب دارفور من الرسوم الجامعية.. تكريس للغُبن أم تمييز من أجل السلام…؟ (١-٣)

في ديسمبر من العام 2012م فُجعت البلاد بالعثور على جثث أربعة من طلاب جامعة الجزيرة غرقى في إحدى ترع المشروع القريبة من الجامعة، وقع الحادث المأساوي عقب تفريق الشرطة لاحتجاجات طلابية بشأن الرسوم الدراسية، كان ثلاثة من الطلاب من دارفور والرابع من الجزيرة.

شهدت نهاية ذلك العام والأعوام التالية، سلسلة من الاضطرابات في أغلب الجامعات السودانية على خلفية مطالبة بعض الطلاب من دارفور باستمرار إعفائهم من الرسوم الدراسية برغم انقضاء الفترة المنصوص عليها في اتفاقية سلام دارفور الموقعة في أبوجا ٢٠٠٦م.

وعلى سبيل المثال شهدت جامعات؛ أمدرمان الإسلامية سبتمبر ٢٠١١م / نوفمبر ٢٠١٦م، الخرطوم نوفمبر ٢٠١٢م، القرآن الكريم والعلوم الإسلامية- أمدرمان في أكتوبر ٢٠١٥؛ الزعيم الأزهري ٢٠١٢ / ٢٠١٧، السلام بابنوسة مارس ٢٠١٣م، الفاشر مايو ٢٠١٣م، النيلين نوفمبر ٢٠١٣م، الإمام المهدي كوستي ٢٠١٣م، بحري ديسمبر ٢٠١٤م، سنار ديسمبر ٢٠١٤م، دنقلا أبريل ٢٠١٥م، السودان للعلوم والتكنلوجيا يونيو ٢٠١٥م، الأهلية، وقبلهم في الجزيرة وغيرها من الجامعات شهدت جميعها أحداث احتكاكات بسبب الرسوم. ويكاد الأمر يتكرر بدرجات متفاوته سنوياً مع موسم التسجيل للعام الجديد.

على المستوى الشعبي، ومع تزايد الصعوبات المعيشية وسط الأسر في السودان بدأت النظرة لقرار الإعفاء الصادر في ٢٠٠٦ تتغير، أسهم سلوك البعض من طلاب الحركات المسلحة في ذلك التغيير بزيادة حدة الاستقطاب وسط القاعدة الطلابية والمجتمعات المحلية، إذ برغم مباركة الجميع لإعفاء أبناء النازحين واللاجئين من الرسوم، كان البعض، يصر على استمرار إعفاء جميع طلاب دارفور من الرسوم الجامعية، حتى من رسوم التسجيل عند القبول، وتمادى الأمر للمطالبة بشمول الإعفاء حتى طلاب الدبلومات والنفقة الخاصة، ما مثّل استفزازاً شديداً للطلاب ولذويهم من أصحاب الدخل المحدود.

كانت المفارقة الكبيرة حينها أن الحرب تدور على أشدها في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بينما الإصرار على استمرار إعفاء طلاب دارفور التي تتمتع باستقرار نسبي  كبير، اكتفى أبناء المنطقتين بمتابعة المشهد بنبل ودهشة، ولم تتفضل أي جهة بتقديم أي معاملة تفضيلية لهم.

في ذات العام (٢٠١٢م) بدأ سريان وثيقة الدوحة للسلام في دارفور(٢٠١١)، بخلاف أبوجا، كانت الدوحة تقصر الإعفاء من الرسوم على أبناء النازحين واللاجئين كما سيرد تفصيله لاحقاً..

خلفية قرار الإعفاء

اتفاقية سلام دارفور- أبوجا ٢٠٠٦م

عند توقيع اتفاقية سلام دارفور في ٢٠٠٦م، تضمنت الاتفاقية، (إلغاء الرسوم المدرسية عن كافة الطلاب الجدد من دارفور على جميع المستويات لفترة خمسة أعوام؛ تخصيص ١٥٪ من القبول في الجامعات العامة في العاصمة القومية للطلاب من دارفور؛ تخصيص ٥٠٪ من القبول في جامعات دارفور للطلاب من دارفور)، وفق تفصيلات سترد لاحقاً عند المقارنة بين الاتفاقيات.

لأسباب موضوعية وللتعاطف الكبير مع أزمة الإقليم، لم تشهد النصوص الخاصة بإعفاء الرسوم معارضة تذكر، موضوعياً؛ كانت الحكومة حريصة من جانبها على تثبيت السلام الوليد في دارفور للخروج من دوامة انتقاد دولي عنيف للأوضاع في الإقليم، ولتجني ثمار اتفاقية السلام الشامل مع جنوب السودان، كما كانت قادرة، بما لها من موارد نفطية، على دعم الجامعات وتغطية الفجوة الناجمة عن إعفاء الرسوم، بالمقابل كانت حركة تحرير السودان جناح السيد/ مني أركو مناوي طرف الاتفاقية الثاني، حريصة على تقديم ”هدية“ للتنظيمات الطلابية الدارفورية ذات النفوذ القوي في الجامعات والمعسكرات للحد من مناهضتها للاتفاق ومنع استقطابها بواسطة الحركات المنافسة الرافضة للاتفاق.

مثلت النصوص الواردة في الاتفاقية بشأن الإعفاء من الرسوم الدراسية سابقة غريبة في بلد ذي إرث كبير من النزاعات واتفاقيات السلام، وبرغم تطاول الحروب في جنوب السودان ٢٢ عاماً؛ وفي المنطقتين ٢٠ عاماً وفي شرق السودان لقريب من ذلك، لم يشهد طلاب تلك المناطق أو أي منطقة أخرى معاملة تفضيلية في الرسوم على أساس جغرافي منذ إعلان ثورة التعليم العالي وإلغاء مجانية السكن والإعاشة في التعليم العالي في ١٩٩٠م.

ذلك مع أن التفاوض حول وقف النزاعات سالفة الذكر كان يجري بالتزامن وفي أوقات متقاربة، ومع قصر فترة النزاع في دارفور حينها (٣ سنوات) مقارنة ببقية المناطق، لم تتضمن أي اتفاقية أخرى معاملة تفضيلية للطلاب على أساس جغرافي.

في عام الاتفاقية الأخير (٢٠١١) كانت مقدرة الحكومة المالية قد تأثرت كثيراً بانفصال جنوب السودان وخروج صادر النفط من الموازنة ولم يعد في مقدورها سداد الرسوم الدراسية لآلاف الطلاب أو الوفاء بالتزاماتها تجاه تلك الجامعات.

وثيقة الدوحة لسلام دارفور

في العام ٢٠١١ وقعت الحكومة وحركة التحرير والعدالة وثيقة الدوحة لسلام دارفور، نصت الاتفاقية هذه المرة على (إعفاء أبناء النازحين واللاجئين في ولايات دارفور المقبولين في الجامعات القومية من الرسوم الدراسية لمدة خمس سنوات)، مع الإبقاء على باقي المكتسبات الخاصة بالتعليم في الإقليم والواردة في اتفاقية أبوجا مثل النسب المخصصة للقبول في الجامعات القومية وجامعات الأقاليم ومشاركة أبناء الإقليم في إدارة الجامعات وتبنى سياسيات داعمة للتعليم في الإقليم.

مقارنة ومقاربة بين الاتفاقيتين

يظهر جلياً عند المقارنة بين النصوص الخاصة بالتعليم في اتفاقية أبوجا ووثيقة الدوحة، أن الوثيقة أتت لتثبت ما سبق الاتفاق عليه في أبوجا وتكاد النصوص تتطابق، إذ اتفقت الوثيقتان على (تخصيص نسبة ١٥٪ من القبول في الجامعات القومية و٥٠٪ من القبول في جامعات دارفور لأبناء دارفور وفق شروط المنافسة، تضمين مشاركة أبناء الإقليم في إدارات الجامعات، واستمرار إعفاء طلاب دارفور من الرسوم الدراسية لمدة خمس سنوات). تباينت الاتفاقيتان في التوضيح بشأن الفئة المقصودة من الإعفاء رغم أتفاقهما حول تخصيصه للمجموعة المتأثرة بالنزاع؛

وبينما تشير اتفاقية أبوجا في المادة ٨٦ من الاتفاقية إلى “اعتماد مبدأ التمييز الإيجابي لتشجيع المجموعات الدارفورية المحرومة على الإقبال على التعليم من خلال:

أ) مراعاة المرونة في تطبيق معيار الأهلية في القبول في الجامعات والمؤسسات الأخرى للتعليم العالي في السودان.

ب/ إلغاء الرسوم المدرسية عن كافة الطلاب الجدد من دارفور على جميع المستويات لفترة خمسة أعوام.”

تمضي وثيقة الدوحة في التفصيل بشأن المجموعات (المحرومة) في:

والمادة ٩١ “تخصص ٥٠٪ من المقاعد المتاحة للقبول في الجامعات القومية في دارفور لأبناء وبنات دارفور طبقًا لشروط لجنة القبول. في الوقت نفسه ُتنشأ آلية أو لجنة لفحص حالات أولئك المتأثرين بالحرب لإعفائهم من  مصاريف الجامعة لمدة ٥ سنوات.”

المادة ٩٢ “يُعفى جميع الطلبة أبناء النازحين واللاجئين في ولايات دارفور الذين يتم قبولهم في الجامعات القومية من الرسوم الدراسية لمدة خمس سنوات”.

بالنتيجة، ظل أبناء دارفور المتضررون من الحرب معفيين من الرسوم الدراسية لعشرة من ٢٠٠٦ – ٢٠١٦م، بينما تدور رحى الحرب على أشدها في مناطق أخرى.

وكما ورد سابقاً، اعتباراً من العام٢٠١٢ ومع انحسار الدعم الحكومي لم تكن الجامعات الحكومية قادرة على تحمل تكلفة الإعفاء من الرسوم الدراسية لعدد كبير من الطلاب، وتصاعدت الشكاوى من مديري الجامعات وبالأخص في دارفور حيث ٥٠٪ من الطلاب معفيون من الرسوم الدراسية، لذا طالبت وزارة التعليم العالي والجامعات بالتزام وزارة المالية بسداد هذه الرسوم بدلاً عن الطلاب، ووعد وزير المالية في حينها السيد/ علي محمود بالاستجابة.

كما وضعت وزارة التعليم العالي توضيحات بشأن القرار تتضمن؛ أن الإعفاء يشمل طلاب البكلريوس النظاميين ضمن القبول العام فقط.

في الجزء الثاني من المقال

سياسات التعليم في اتفاقية جوبا… ملامح من اختلالات العدالة

نتناول فيه بالمقارنة النصوص الخاصة بالتعليم في اتفاقية جوبا وفق كل مسار…

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى