سيرته مازالت مفتوحة على فضاء الألم والغُربة.. بهنس.. أهديك الفوضى!!

الخرطوم: الصيحة

(1)

مازالت سيرة رحيل الفنان محمد حسين بهنس مفتوحة على فضاء الألم.. رحل بهنس وترك خلفه العديد من الأسئلة والجِراحات ستظل مُتّقدة ومفتوحة في انتظار أن تجد الإجابة الشافية والوافية والكافية.. ولعل رحيله بهذه الطريقة المهينة يمثل أزمة جديدة تُعبِّر عن مجموع الأزمات التي يعيشها المُبدع السوداني في الداخل والخارج.

والفكرة تبدو أقسى أن يموت الكاتب جوعاً وبرداً على أرصفة أحد الشوارع ولا يتعرّف عليه أيِّ شخص في المشرحة إلا بعد مرور أيّام على وفاته، فهذا قِمّة في الأنانية ومنتهى السَّخف والانحطاط الذي يُمكن أن تصله حالة المثقف في بلادنا.

(2)

لا يمكن إلا أن تتأثر بهذا المشهد القبيح واللا أخلاقي في مجتمع الأحرى به أن يعير هذه الفئة من الناس اهتمامه ورعايته ولمَ لا رفاهيته؟ هناك في الضفة الأخرى يهتمون بهم ويولونهم المكانة اللائقة بهم ويكرمونهم في حياتهم، أما هنا فالأزقة والحواري والأرصفة هي الملاذ والقبر، أما التكريم فالقلة المحظوظة هي مَن تستحقه في حياتها قبل الممات.

والراحل فنان متعدد المواهب، فهو روائي وشاعر وتشكيلي وعازف جيتار ومغنٍ ومصور، وبعض لوحاته تزين قصر الإليزيه في فرنسا، وقد شارك في عدد من المعارض بالسودان وفي الخارج.. له تجارب مختلفة في مجال الرسم الضوئي، إلى جانب كتاباته الشعرية والقصصية وروايته “راحيل” التي صدرت عام 1999، وأثارت الكثير من الجدل لدى النُّقّاد.

(3)

وكَانَ بَهنس قد ذهب إلى القاهرة قبل عامين ليقيم معرضاً تشكيلياً ومعرضاً آخر لصورٍ تعكس الثقافة والفلكلور الأفريقيين، وأصابته حالة من الاكتئاب، حيث ظلّ مشرداً في شوارع القاهرة بلا مأوى أو عَمَلٍ، يعيش في الميادين ويَنام أمام المَطاعم.

ويقول أصدقاؤه إن ما أصابه يعود إلى إبعاد السلطات الفرنسية له بعد أن كان متزوجاً من فرنسية وأنجب منها ابناً في 2005 ثم طلّقها ليعود إلى الخرطوم مُكرهاً، ويُصدم برحيل والدته، ثم رحيل شقيقه في بريطانيا. وكتب بهنس أغنية مشهورة تصور بعض حاله بعنوان “أهديك الفوضى” يقول فيها:

أهديك الفوضى

شِجَار طفلين في ساحة روضة

أهديك الغُربة

ضجيج الموتى

وصوت التربة

أهديك إحباطي..

أهديك مرهم النجمة

يداوي جراحك..

(4)

الراحل بهنس تناوشته العبقرية والجنون, فأقام في عزلته مداميك خاصّة, ينام في حواشيها ويَرسم على متونها رؤيته للعالم، وهي رؤية جعلته يقفز من التشكيل إلى الموسيقى إلى الرواية ثم العودة إلى تشكيل الحياة بغربة احتجاجية.. بهنس كان يُحرِّك ساكن المكان بصوته وروحه النزقة للانتماء، يكتب وينشر، ويمتد إبداعه إلى الحيطان ملوناً، رافضاً انفصال الجنوب عبر منظومة “سودان يونت”. “غاب كما غنّى وحمل الجيتار، غاب هادئاً كما هو، وغاب في دولة لا تذكر مبدعيها، بل تنكر إبداعهم وتتمنّى لهم الغياب.

(5)

بهنس تناوشته العبقرية والجنون وصخب الحياة الخاصة, فأقام في عزلته مداميك خاصة, ينام في حواشيها ويرسم على متونها رؤيته للعالم، وهي رؤية جعلته يقفز من التشكيل إلى الموسيقى إلى الرواية ثم العودة الى تشكيل الحياة بغربة احتجاجية. بهنس “مضى إلى ربه شاكياً من دنيا لم ينكر عليها سوى أن رحلته الطويلة من الآلام قد انتهت أخيراً.

رحم الله الفنان الشاب بهنس، فرحيله يؤرخ لمأساة جيل كامل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى