ياسر عرمان يكتب : دِفءُ الشّتاء .. عند مِسلّةِ الجنوبيّ (1-2)

 

وكلما ازداد النقاش حرارة بينهما واتسع وامتد لجغرافيا العالم امتدت أياديهما رويداً رويداً في حوار بنفس حرارة أفكارهما والجدل بينهما وتحدثا عن قيمة المصالحة الإنسانية بين الحضارات والأعراق ومساهمات جميع الأعراق في صنع وبناء وإنتاج الحضارة الإنسانية، وقال لها إن هذه فكرة من أفكار الشيخ أنتا ديوب عالم التاريخ وعلم الاجتماع السنغالي، وقد احتوتها رسالته للدكتوراة في جامعة السوربون حول الأصول السوداء لحضارة وادي النيل، ومع الحوار امتدت أرواحهما لجغرافيا جديدة، وعلى ذكر السوربون حدثته عن الحي اللاتيني الذي تحفظه عن ظهر قلب واتفقا على زيارته معاً؛ وحدثها أن رسالة الدكتوراة للشيخ انتا ديوب يطلق عليها إنجيل التاريخ الأفريقي، وتحدثا عن فكرة فرنسا التي كانت نتاج المكونات الأوربية واختلاط الأجناس البشرية والتي تركت بصماتها في اللغة والثقافة، وأعطت الفرنسية والفرنسيين حيزاً مميزاً في الفضاء الإنساني الحيوي.

انتقلا بحديثهما إلى مطاعم باريس وطعامها المميز ذي الأصول الفرنسية والتي أتت من خارج باريس، إن قائمة الطعام  في باريس مأخوذة من كل أجناس الطعام البشري والحضارات الإنسانية وأن بإمكانك في باريس أن تتناول كل يوم وجبة مختلفة طوال العام من أطعمة لا حصر لها تمثل المطبخ الفرنسي وبقاع الأرض الأخرى، إن مطاعم باريس هي انعكاس لثراء فرنسا وتنوع الحضارة الإنسانية كما أن الأزياء الباريسية والموضة والعطور لا تمثل أصولها الفرنسية فحسب بقدر ما تمثل الانفتاح على ثقافات الأرض بلمسة فرنسية ومذاق كوني لا يخفى على أحد؛ كان الوقت يمضي بمعدل مضاد لساعات انتظاره الرتيبة لهذا الموعد وتنقلا من حانة إلى حانة حتى تسلل ضوء الفجر واستقلّا عربة إلى جهة لم يُفصَح عنها بعد.

عندما التقى بها للمرة الأخيرة لا يزال يتذكر شقتها المليئة بالألوان والورود الطازجة والخزف والأواني القديمة ولوحات الحائط والقماش ونباتات الظل الذي يبحث بعضها عن الضوء والرسومات والأشغال اليدوية والفلكلور الأفريقي  وتشكيلات من أثاث ذي طراز باريسي قديم يعكس روح المدينة منذ ثورتها المطالبة بالحرية والإخاء والمساواة ذات الأثر الكوني،  والتي طبعت الحركات المدنية اللاحقة في أوروبا بطابعها وأثرَت الفضاء الإنساني العريض، وفي زاوية من زوايا شقتها الأنيقة تقبع  مكتبة صغيرة في حجرة الاستقبال؛ تضم كتباً باللغة الفرنسية والانجليزية وبطاقات تهاني لمناسبات مختلفة وأزهار جافة في عدة مزهريات؛ كان ما يميز أثاث الشقة أنها اشترت معظمه من أسواق باريس الأسبوعية التي تبيع عفش المنازل القديمة وقد أكل منها الزمن ولم يشرب، وباريس مشهورة بهذه الأسواق لمن زارها وهي ومضة من ومضات الماضي تحتفظ ببصمات أصحابها وتقلبات المشهد الثقافي الباريسي وتشكل عالم هذه المدينة الإنساني الجميل والمجنون معاً. إن باريس هي أجمل فاتنة لم تستطع شروخ الزمن احتواءها بالكامل يبدو عليها الإعياء الذي لا يخفي جمالها؛ لقد كان منزل ماري ميشيل شاهد على ذلك وهو ينم عن ذوق رفيع وشغف بالحياة .

 

استيقظ زكريا عند منتصف نهار الأحد واحتوته عطور باريس وأخذ يستجمع ذاكرته وتسونامي الذي ضربها في أقل من 24 ساعة؛ تذكر بعض النقاشات العاصفة بشكل متقطع في البداية ….. ماذا تضيف المسلة لباريس؟ وهل خسرت القاهرة والأقصر بغيابها؟ هل أضافت المسلة لمصر ووادي النيل في غيابها أكثر من الحضور؟ رجع بذاكرته إلى رحلة الجنرال الكورسيكي وتاريخ المسلة والملايين يزورون المسلة كل عام تذكر أنه في إحدى اللحظات قال لماري ميشيل هل يسقط الحق بالتقادم؟ حتى ولو تجاهلته الملايين! هل يهم أن الكورسيكي إيطالي أو فرنسي؟ إنه جزء من أمجاد فرنسا وبنائها ورموزها؛ تذكر سؤالها له عن اسمه الإبراهيمي هل هو سطو أم تبادل إنساني أم استلاب واغتراب وهيمنة ثقافية؟ وهل نشرب من كأس الآخرين دون إذن ونسي كل ذلك، ورائحة القهوة تنفذ إليه من جواره ومعها تحية صباحية أو نهارية لا يهم .

كانت ماري ميشيل محايدة في عواطفها الدينية وتهتم بما تفعله في حياتها على الأرض أكثر من رحلتها نحو السماء ولا تستنكف التصريح بأنها مسؤولة عن حياتها في دنياها مع البشر وما تقدمه لهم من فرح انساني؛ أما عن السماء فهذه حياة لم تعشها بعد  وغير معنية بإشكالاتها القادمة وستتصرف كما ينبغي حينما يصدق أنها ستنتقل ألى السماء ومع ذلك فهي تتمتع بقيم إنسانية رفيعة مع نفسها ومع الآخرين وكان زكريا موسى حالة مغايرة لها في وحدة الفضاء الإنساني؛ فهو يعيش في الأرض ولا يتجاهل تذكرة السماء وحينما انخرط معها في النقاش مجددا وهما يحتسيان أكواب القهوة كانت الأرض والسماء والإنسان محور نقاشهما.

ماري ميشيل في حوارها معه عن العالم الآخر قال لها: “إن تذكرة العالم الآخر تُشترى من الأرض، لا عند الوصول إلى السماء”، قالت ساخرة: “إنها لا تُضيع وقتها في الدنيا من أجل شراء تذكرة للسماء” فإذا صعدت إلى هناك سوف تحصل على تذكرتها هناك، وأضافت: “إذا كانت تذكرة السماء سيحصل عليها كل البشر اللذين مروا على الأرض منذ الخليقة، فهل من الممكن تخيُّل ذلك؟” ردّ عليها: “إن الذي استطاع بدء الخليقة وسيل البشر منذ بدايتهم، هو قادرٌ على توفير تذكرة لكلٍّ منهم”، وأضاف: “إن طريق السماء طريقان، لا يؤديان إلى نفس المكان ولا نفس النتيجة، فهناك طريق من نعيم وآخر من جحيم، حسب ما تحصده أفعال المرء في الأرض، لا في السماء”، ضحكت، وحولت النقاش إلى موضوعٍ آخر، وكانت في الغالب لا تحب الجدل في القضايا ذات الطابع الديني والإيماني، وترى أن ذلك محض حرية شخصية، تزداد تعقيداً عند طرحها في الفضاء العام.

قالت إنها تريد أن تذهب معه إلى محطة الباستيل، أحد الأمكنة التي دارت فيها أحداث الثورة الفرنسية، وسألته: “أتعلم لماذا يُصرُّون عليك أن تأخذ كأساً أخيراً للطريق؟” ولم تنتظر ردَّهُ وأجابت: “إنهم في سجن الباستيل حينما كانوا يدفعون بالضحايا نحو المقصلة، يعطوهم كأساً أخيراً لوحشة الطريق”، وانخرطا في نقاشٍ عن الثورة الفرنسية، انتهى بالحديث عن جوزفين، وقالت إنها تحب روح الإمبراطورة جوزفين الطلقة، وعدم تقيدها بالمراسم والطقوس والتقاليد الملكية، وأنها أقرب لليدي ديانا، وحينما تزوجت نابليون للمرة الثانية عاشت حياتها كما اتفق، فالكورسيكي باحثٌ عن الأمجاد في الجغرافيا، وهي تبحثُ عن الحياة، ولا تمانع في مشاركة حياتها مع الآخرين، وحتى مع الضابط شارل الذي كان تحت قيادة فرقة نابليون، ومع ذلك احتفظت بعلاقتها مع من يبحث عن الأمجاد، وكان قد قرأ سيرة جوزفين من قبل.

 

تذكّر زكريا من تلك السيرة كيف نجت الإمبراطورة جوزفين من عنف الثورة، الذي جزّ عنق زوجها الأول “الفيكونت” وتحول اسمها من روز إلى جوزفين، وأحب نابليون الاسم الأخير، لم تكُن تخَف من نابليون، ولم تخف خياناتها الزوجية عنه، وكتبت كل ذلك في سيرتها التي خطها كاتب السير الشهير بيير فرانسوا في “جوزفين سيرة إمبراطورة” وهو الذي كتب أيضاً سيرة العظيم فيكتور هوغو، وذهبا إلى الباستيل وأمضيا النهار هناك بأحد أحياء باريس القديمة.

 

التقيا مراراً في باريس ولندن، وفي مُدُن افريقية وأوروبية عدة، ثم انقطعا عن اللقاءات لمدة عامين، أخذتهما فيها الحياة في اتجاهات مختلفة، فقد ذهبت ماري ميشيل لويس إلى أنغولا لتغطية الأخبار في حرب جوناثان سافيمبي والتي قضى فيها نحبه، ولم تعُد إلى باريس إلا بعد عامين، تبادلا الرسائل المحتشدة بالأشواق، والمكتظة بالذكريات وجمال الروح واللقاءات.

وقبل لقائهما الأخير في باريس، التقط من صفحتها على وسائل التواصل الاجتماعي أن الطبيب قد أخبرها خبراً محزناً، ولكنها كتبت عنه بحياد وكحقيقة من حقائق الحياة والأخبار غير الطيبة التي تحملها أحياناً، وخففت على معارفها هول الصدمة، كانت شجاعة، وهي تدرك أنها نهايات الطريق، ونشرت العديد من صورها، وبدا أن المرض قد أنهك جسدها ولكنه لم يطَل روحها، وأناقتها، وظلت تتحدث عنه باتزان، وهي تقاتل رحلتها الأخيرة، وتراجع طبيبها، وتنظر إلى قدرها مثلما تنظر في مرآة الحياة، ولا شئ ينُمُّ عن الهلع في تصرفاتها بقدر ما يشي بروحها المقاتلة، وحبها للحياة والإنسانية وذكريات الأمس، وأخذت تتأقلم مع السرطان المعتدي الأثيم، وهي في الأصل كانت تأخذُ الحياة كرحلة في قطارٍ أو طائرة، زمنها محدود، مهما عظُمت المسافة بين وقت المغادرة وزمن الوصول، وأدركت منذ البداية أن الأهم في كل ذلك هو كيف لنا أن نستمتع بالرحلة، ونجعلها مفيدةً للآخرين، وأن الرحلة لا تُقاس بالنهايات، بقدر ما تُقاس بجمال الطريق، والبصمات التي نتركها أكثر خلوداً من الرحلة نفسها، كانت ماري ميشيل لويس تعشقُ السياحة والسباحة في النفس البشرية.

أتى خصيصاً لزيارتها في باريس، وهاتفها زكريا موسى من المطار، طلبت منه أن يحدثها في اليوم التالي لأنها أخذت جرعة من العلاج الكيميائي صبيحة ذلك اليوم، وتريد أن تستجمع طاقتها للحديث، وتمنت له وقتاً طيباً في المدينة، وأنهت المحادثة القصيرة.

 

لم تعتَد في الأشهر الأخيرة أن تقابل معارفها وأقربائها، ولا حتى أصدقائها، اكتفت بدائرةٍ صغيرة من أسرتها وبعض الأصدقاء، وحينما هاتفها في اليوم التالي كان يريد أن يلتقيها، وكانت تريد أن تضع حائطاً من الصد أمام ذلك اللقاء، وقالت له بصوتٍ واهٍ أنها تريد أن يحتفظ بصورتها الأولى، ولكنه ألحّ، وطلب أن يراها حتى ولو عند باب شقتها وذكرها بكلمة المرور والرقم السري عند بوابة الدخول، ضحكت لأول مرة، وأكدت أنها ستأتي للقائه غداً، وتتمنى أن يكون يوماً مشمساً ودافئاً، يليق بالنهايات.

 

حدد المواعيد بالقرب من منزلها الذي سجل له عشرات الزيارات من قبل عند محطة “منبرناس” حينما التقاها عند المحطة طلبت منه أن يتمشيا في تلك الجادة والشارع الطويل المؤدي إلى سان جيرمان، وأن يجلسا عند حانةٍ قديمة تواجه كنيسة سان جيرمان العتيقة، أمسكت بيده وهما يسيران في الطريق، لم يتحدثا، احترم صمتها، وعند منتصف الطريق، ضغطت على يده، وابتسمت، وطلبت منه فجأةً أن يُغيّرا خطتهما، وأن يذهبا إلى اتجاهٍ آخر، لقد كان اختيارها الجديد مزيجٌ من الماضي والحنين لذكريات الأمس وصور البدايات والحدس الذي يرى النهايات. إن النهاية قد تُماثِلُ ألف بداية ويجب أن يكون ختام كل سيمفونيةٍ جيدة مثل مدخل بداياتها، والحنين لا يخلو من الألم وفرح البدايات.

 

كانت ماري ميشيل امرأةً عنيدة بقدر ما هي مُحبّةٌ للحياة، وكانت ساخرة وتأخذ الحياة ببساطة، وكانت بادية الأناقة عند اللقاء الأخير مثلما كانت في لقائهما الأول وهي سليلةُ أسرةٍ باريسيةٍ عريقة أخذت من باريس ملامحها المزدانةِ بدقة الأناقة والذوق الرفيع، ومع ذلك فهي منفتحة وحُرّة التفكير، تنتقي كلماتها بعناية، تماماً كما تنتقي ملابسها وزينة يومها، ويعكس طابع حياتها اليومي انفعالها بما حولها وبالحياة، وعندما التقيا غلب على مُحيّاها الصمت والكبرياء الرفيع الذي لم يأخذ منهما المرض إلا قليلاً، ولم يخفِ المرض فتنتها بقدر ما أخفت فتنتها ما بصحتها من عِلل.

 

وحينما طلبت منه فجأةً أن يُغيّرا خطتهما، وأن يذهبا إلى المسلة بدلاً من سان جيرمان، وإلى حانة “القلب النابض”، لم تنتظر إجابته فكانت عيناها مشعتانِ بضياء الكون، وأومأت لسائق التاكسي بالوقوف، وتوقف، وكأنه ينتظرُ منها الإشارة، وحينما هبطا في جوف التاكسي، اعتذرت له عن تغيير وجهتها الأولى، وقالت إن هذا اللقاء ربما يكون الأخير لذا فإنها قد فكرت في الذهاب إلى حيث ما كانت البدايات، ثم صمتت، لم يشأ أن يرد عليها، فقد أعجبته الفكرة وأخذه الحنين، وأومأ برأسه إيجاباً مع ابتسامة، وتذكر أنه حينما هاتفها من المطار لم تكُن ترغب في هذا اللقاء، وحاولت الاعتذار بأن المرض يمتصُّ رحيق حياتها، ويتركها في أرضٍ يباب، لكنه كان يرغب في رؤية ذاك الوجه المحفور في الذاكرة، كان يريد أن يراها حتى ولو من خلف باب شقتها أو خلف الضباب، حتى وإن لم تُتح له فرصة مصافحتها، وإلا فلا معنى لقدومه لباريس.

في التاكسي وضع يده على كتفها، فأرخت رأسها على صدره، كانت جميلة بقدر ما مضى، كان وجهها شاحباً برسمٍ من جمال، استرخت، لم يشأ أن يزعجها، وأفاقت عند صوت سائق التاكسي وهو يقول لها بلغةٍ فرنسية، وبشكل ينُمّ عن التهذيب الباريسي: “لقد وصلنا سيدتي!” ضحكت ضحكة خافتة، ونادرة تلك الأيام، وقالت بلغةٍ إنجليزيةٍ رصينة، لقد وصلنا قبل المواعيد!

 

ذهبا إلى المسلّة ثمّ إلى حانة “القلب النابض” انتظرها علّها تطلب شرابها المُعتاد، والمفضّل، لكنها طلبت قهوة تركية، وفعل مثلها، قال لها: “إن شعرك يبدو جميلاً، لا يعلوه جديد، وليس كما ذكرتِ أنه قد تساقط”، ودون أن تنظر في عينيه، قالت له: “إنه ليس بشعري، بل هو يشبهه، عن قصدٍ واختيار، وخلعت شعرها المستعار” وبدت بيضة رأسها وعينيها اللتان تشبهان رابعة النهار، وكأنها تُجرب موضةً باريسية حديثة، مع بعض الإرهاق، وذكر لها أن الفتيات الباريسيات سيقلدنّ هذه الموضة، إذا التقطت بعض الصور، فضحكت، ثم أسدلت شعرها المستعار مرةً أخرى، وقال لها أنكِ أجمل دون شعركِ المستعار، فضحكت مرةً أخرى، وأخبرته أنها لم تضحك منذ شهور كما ضحكت اليوم، وأن هذا لُطف معتاد منك، وأنها سعيدة بهذا اللقاء، وأنه قد أدخل البهجة إلى نفسها وهي سلعةٌ غالية كانت تبحثُ عنها.

تعمّد أن يحتسي قهوته ببطء، وكان يُدرك أنها تقيسُ سرعة احتسائها شرابها أو تناولها طعامها مع الشخص الذي تشاركه الشراب أو الطعام كنوعٍ من الإتيكيت الباريسي، وبمجرد أن احتسى قهوته طلبت منه أن يأذن لها بالذهاب، لم يُلِحّ عليها، كان الإرهاق قد بدأ يعلو وجهها، رغم أنها اجتهدت في إخفاء ذلك، ولاحظ دوائر وهالات سوداء على عينيها اللتين لم ينطفئ بريقهما.

 

نظر إليها بعمق وبرقّة، وبادلته النظرات، وبرقت عيناها للحظة، واحتضنتهُ، واستسلمت وهي تودعه، وسقطت من عينيه دمعة، أخفاها قبل أن تراها، ودعته، وغادرا المكان وسارا بمحاذاة بعضهما إلى محطة “الكونكورد” وكانت ستأخذ قطاراً معاكساً له في الاتجاه، طلب أن يرافقها، فاعتذرت بلطف وبرقّتها المعتادة، وأخذت مكانها في عربة المترو، انتظر حتى غادر قطارها المحطة، أشارت له من مقعدها ولوحت يدها مع ابتسامة.

 

كانت تلك هي إشارة الوداع الأخيرة، هاتفته في يومه الأخير قبل مغادرة باريس، قائلةً إن الصور التي التقطاها في كل الأمكنة لا تزال تُزيُّنُ منزلها، وتؤنس وحشتها، وشكرته عليها، كانت محادثةً لا تخلو من الوجع!

لم يلتقيا مجدداً، ثم التقط خبر رحيلها إلى بارئ الأرواح من خبرٍ أوردتهُ محطة الأخبار التي كانت تعمل بها، ولا يزال يزورُ صفحتها على وسائل التواصل الاجتماعي، التي توقفت عن تجديدها منذ زمن، ويلقي عليها التحية من حينٍ لآخر، ويسترجعُ كلماتها الأخيرة، وهي تحاول التملُّص من لقائهما الأخير، لا تزال صورها تحمل ابتساماتها التي لم يعلوها غبار الزمن، ولم تصدأ بفعلِ الغياب.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى