عبد العزيز يعقوب – فلادليفيا يكتب :  عنجهية ترمب والجينات النرجسية في الانتخابات الأمريكية

 

كريستوفر مكتشف الدنيا الجديدة كما هو مدون في مخطوطات التاريخ الحديث  كان يبحث عن طريق أقصر إلى الهند، لكن ساقته الأقدار والرياح ليحط رحاله وكتب مذكراته بعد ذلك عن سواحل أمريكا الشرقية الجنوبية وجزر الكاريبي وتتابعت الرحلات بعده  وبجهود البحار الإيطالي جيوفاني كابوتو والبحار الإيطالي أمريجو فيستوبتش  الذي يقال بأن اسم أمريكا نسب إلى “أمريجو” الذي وصل الى سواحل البرازيل. بعد رحلات الاستكشاف في القرن الخامس عشر . بدأت رحلات الهجرة المدونة في بدايات القرن السادس عشر وقطن الأروبيون المهاجرون الفارون من الاضطهاد الديني في أروبا في السواحل الشرقية للقارة الأمريكية، ليبدأوا رحلة صراع مع السكان الأصليين من الهنود الحمر ومع بعضهم البعض كمهاجرين، انتهت صراعات المهاجرين والسكان الأصليين لصالح المهاجرين وانتهت الصراعات فيما بينهم بوضع دستور متفق عليه.

بدأ المهاجرون في تأسيس دولة لم تكن لها مقومات شبيهة بمقومات الشعوب الأخرى في العالم  دولة ليس له حدود جغرافية معروفة ولا تاريخ ولا بنيات تحتية ولا إثنية محددة لكنهم توافقوا على الحريات واحترام الدستور وأنه لا كبير على سيادة القانون ولم يكن الأمر سهلاً كما تقرأه الآن، لكنه كان صراعاً كبيراً للاستحواذ على الثروة والسلطة تقوده النفوس الأمارة بالسوء، وفِي كل مرة كانت تنتصر فيه قيم الدستور والقانون والأخلاق نسبياً فأصبحت لديهم تجربة تراكمية من القيم التي شكلت وجدانهم بأهمية الحرية ومناهضة الفساد والثبات على الدفاع عن الحقوق الأساسية وعقد المواطنة برغم السنين العجاف من السخرة والتمييز العنصري التي عانى منها الأفارقة الأمريكان والشعوب الصفراء لكنها انتهت أيضاً بتعزيز الدستور والقانون بوثيقة الحريات ودولة المؤسسات رغم ظهور بعض حالات التمييز باستحياء بين الفينة والأخرى، وهنا وهناك ولكن لا تجد من يجاهر بها  أو يدعمها أو يقوم بفعل ظاهر في تحدّ وتحقير للآخر. هذه القيم على الأقل في داخل الحدود الجغرافيا الأمريكية أتاحت مساحة مقدرة من التوازن في الحقوق بين المواطنين وقدر من التنافس في الوظيفة العامة وأفسحت مساحة لحرية التعبير ووفرت الحماية لحرية الاعتقاد الديني والعبادة بالقانون وبسياج المجتمع  المدني ومنظماته الطوعية  ومنابر الرأي.

ما شاهدناه مؤخرًا وفِي خلال الأربع سنين الأخيرة من حكم الرئيس دونالد ترمب والذي يرى كثير من الأطباء النفسيين والاستشاريين في الصحة العقلية بأنه مصاب بداء النرجسية ” Narcissistic Disorder” وهو أحد أمراض الشخصية الذي يصاب بداء تضخيم الذات وبجنون العظمة  وصاحبه لا يقبل المخالفة في الرأي ولا يقبل بأن يكون في غير المركز الأول، ويعتقد بأنه الصحيح المطلق والآمر الناهي وأنه معبود الجماهير وأن له سلطة مطلقة وأنه لا يمكن أن يخسر أي منافسة مهما كانت وفِي أي مجال، وهذه الأعراض تنعكس في شكل اضطرابات نفسية وعاطفية على السلوك الذي أصبح  في ذاته مهدداً وتحدياً للنظام الديمقراطي الأمريكي وللحزب الجمهوري، وللأسف قد وجد الرئيس المريكي من يزين له هذا الصنيع من داخل الحزب  ليصبح  هذا النمط من السلوك  النرجسي الاستعلائي من قيادة الدولة كارثة تواجه الديمقراطية  والمجتمع الأمريكي عموماً.

 

هذه العنجهية السلوكية صورها القرآن الكريم في سورة النازعات حينما صور ظن فرعون بانه  هو “الرب”  كما ورد في الآية  “فحشر فنادى  فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى”.

يبدو أن الانتخابات الأميريكية اتخذت منحى وشكلاً شبيهاً بدول العالم الثالث من إساءة استخدام السلطة وأصبح هناك بعض القادة السياسيين الأمريكيين  يطبلون للرئيس الخاسر عبر صندوق الاقتراع وأعتقد بأنهم الآن يفكرون في مليونية سريعة لدعم الرئيس الخاسر ترمب ومحاولة تغبيش الوعي والمطالبة بإعادة حساب الأصوات الذي رفضته المحكمة الابتدائية، وهذا بالطبع يرضي غرور الرئيس السابق ترمب ويعلي من شعور العنجهية السلوكية المرتبطة بداء النرجسية وتضخيم الذات وهو لعمري شبيه بالتجربة السياسية السودانية التي ما زالت تمارس تضخيم الذات للأقزام حتى يصابوا بداء النرجسية ويصبحوا هم المعضلة في تداول السلطة سلمياً، وفيما أرى أن ترمب سيستمر في ممارسة الفهلوة السياسية وعدم أداء التسليم والتسلم في ٢٠ يناير القادم مما قد يؤدي إلى صراع لا تحكمه صناديق الاقتراع بل تحكمه جينات النرجسية وبعيداً جداً عن المؤسسات الديمقراطية  الراسخة في الولايات المتحدة الأمريكية وأدب الاختلاف السياسي المعهود وقبول الآخر ونتيجة الانتخابات بروح وطنية تجمع ولا تفرق وتعزز العمل الوطني المشترك بين كل الأمريكيين من الحزبين الكبيرين.

الغريب في الأمر أيها القارئ الفطن، أن سياستنا السودانية ظلت ومنذ الاستقلال وربما قبل ذلك تعيش في أتون الحالة الجِنيية الترمبية النرجسية الإقصائية،  فاليمين قام بإقصاء اليسار وحل الحزب الشيوعي بعد ثورة أكتوبر الشعبية وسكت ثوارها عقب ذلك الغقصاء للأسف، وها هو التاريخ يعيد نفسه اليساريون والعلمانيون والجمهوريون يمارسون نفس السلوك المعيب بعد ثورة ديسمبر الشعبية بشعارها البراق “حرية سلام وعدالة” ولكن للأسف سكت ثوارها وأُهدر دم شهداء الثورة الأبرار فحتمًا سيقود ذلك إلى الإحباط  والغبن وضياع الأمل بالديمقراطية الموعودة في السودان، وإذا  لم ينتج أهل السودان مشروعاً قومياً وطنياً سودانياً يعبر عن كل السودان يحث على الوحدة الوطنية ويتفق حول دستور وقانون نافذ ويعزز للمواطنة.

وكن تبقى الأسئلة المشروعة، هل تستطيع الجينات النرجسية الترمبية أن تضيع الديمقراطية في أرض العم سام ؟؟ هل سيسكت الثوار ودعاة الديمقراطية، وحقوق الإنسان  ومنظمات المجتمع المدني وتيارات الضغط  أن يصمدوا  وينافحوا  ويصدوا الذات المتضخمة أن تطيح بالديمقراطية الراسخة في أمريكا؟؟. وهل يستطيع أهل السودان أن ينتجوا مشروعاً قومياً وطنياً يعبر عن كل أهل السودان؟؟

* المشروع الوطني السوداني للتعافي، طريق نحو الحل السياسي الشامل.

* السودان فوق الصراع الحزبي .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى