عبد الحفيظ مريود يكتب :  سودانيون يا رسول الله

الذين وشَوا بالقائد الفذ، عثمان دقنة، وسلّمه للإنجليز كانوا بعض أهله. ذلك ليس سيئاً، فيما يبدو، بالنّسبة للقيم العامّة والأخلاق التي كان – ولا زال السُّودانيون يمرجعونها. فالحادثات المُشابهة لها، في تأريخهم القريب، والتي يسميها القانونيون سوابق قضائيّة، كثيرة. ذلك أنّه حين ناجزتْ قبيلة الشايقيّة الغازي إسماعيل باشا، ومعهم البديريّة والمناصير، وقدّموا أرواحاً عزيزة غالية، عقدوا صفقةً مميّزة مع ابن الرّجل القوي، محمد علي باشا، ورافقوا جيشه، لإتمام غزوه للبقية من السُّودانيين. حتّى لكأنَّ ما فعلوه في مفتتح الغزو كان خاطئاً. فالوضعُ شديد التناقض، عصيٌّ على التحليل.

لاحقاً، وجدَ العبابدة مناجزة المهدية، ضمن خندق الأتراك فعلاً متّسقاً مع الوطنية. ولم تسقط، أو تسلّم حامية بربر، التي كان على رأس سُلطتها العبابدة، إلاّ بعد مفاوضات قادها الشيخ محمد الخير، أحد أساتذة المهدي. وبقيت القبيلة، ضمن سلطة يقودها السّودانيون على مضض، إذْ سرعان ما أغراهم سلاطين باشا فقاموا بتهريبه. ثمَّ شيئاً فشيئاً، دخلتْ قبائل عديدة قائمة البيع للأجنبي. الكثيرون يدافعون عن عبد الله ود سعد، وعصيانه أوامر الخليفة عبد الله التعايشي بنقل المتمّة شرقاً، حتّى لا تزوّد – شاءت أمْ أبتْ – جيش كتشنر باشا. لكنّه كان تمرُّداً صاعقاً، وريفاً، أنصعَ من أنْ تتم تغطيته أو تكييفه شئياً آخر.

لكنْ قبل ذلك امتنع المحس والسِّكُّوت والحلفاويون عن تزويد جيش النّجومي إلى مصر، بما يحتاجه. نزلوا عند رغبة المخابرات، مخابرات العدو، بدفنِ المؤن والغذاءات، وكلّ ما هو ضروري. فيما بعد مهّد ذلك للنوبيين أنْ يُسْتَوعبوا في عمالة كتشنر، عمّالاً للدّريسة في مشروع مد خط السكة الحديد إلى أبو حمد، فعطبرة. قبل أنْ يتخلّص منهم كتشنر حين وصلَ إلى عطبرة، مقرّراً أنْ يكمل مهمته مستخدماً النّيل.

ومهما يكنْ من تفاصيل ملفّقة، بدقّة، سيكون منصفاً الإشارة إلى أنَّ من سلّمَ عبد القادر ود حبّوبة إلى الإنجليز ليتم شنقُه، كان بعضُ أهله. فالوشايات وإعانة الغازي – قديماً وحديثاً – جزء أصيل من سلوك وثقافة وأخلاق السُّودانيين تجاه بعضهم، لا سيّما في معارضاتهم وخصوماتهم السياسيّة. شهدتْ معارضة الأحزاب للإنقاذ الكثير من ذلك. ثمّة دائماً غازٍ، أو أجنبي هو – في أسوأ أحواله – أفضل ممن ننازلهم من أبناء جلدتنا. فلقد جرى إدراج اسم السُّودان في قائمة الدُّول الراعية للإرهاب، وفرض عقوباتٍ اقتصادية أمريكيّة عليه، بسبب تلفيقات جرى تقديمها من سودانيين. لاحقاً – أيضاً – لم يشعرْ أحد أهم عرّابيها، الدكتور عمر قمر الدين، وزير الدولة بالخارجية، اليوم بمثقال ذرّةٍ من ندم، كما ظل يكرّر، ليتمّ الاحتفال برفع ذات العقوبات والإدراج ضمن القائمة، على أنّها أعلى، أو واحدة من أعلى، إنجازات الحكومة الانتقالية.

أربكني خبرٌ مفاده أنّ بعض زملائنا، ممن فصلتهم لجنةُ إزالة التّمكين من التلفزيون القومي، والإذاعة، قد تقدّموا بشكوى إلى مدير هيئة الإذاعة البريطانية، ضد الأستاذ لقمان أحمد، مدير الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون. صعقتُ، حقّاً. هل وصلَ الحال بالزملاء الكرام أنْ يخبطوا عشواءً؟ هل ضاق بهم الأمر لتقديم مثل هذه الشكوى عديمة المعنى والمتهافتة؟ يستحقّون التضامن. لا شكّ في ذلك، كما يستحقُّ كلُّ أحدٍ التضامن حين يجدُ تضرُّراً من أيٍّ كان. لكنّ ذلك لا يجعل مدير هيئة الإذاعة البريطانيّة قيّماً على، لقمان أحمد. ولو كان يملكُ النّصفَة منه، لما استطاع إلاّ أنْ يعفيَه من إدارة مكتب بي. بي. سي، في واشنطن. وهو أيضاً غير وارد.

لكن يبدو أنّ الجميع يتساوى في تهريب سلاطين، وطمر المؤن حتّى لا يدركها جيشُ النّجومي. والجميع على استعداد لإفشاء مخبأ عثمان دقنة وتحصيناته. والجميعُ يمكن أنْ يبيع ود حبّوبة أو يدمِّر دولة وطنية خالصة، نكايةً في ود تورشين، والجميع يمكنْ أنْ يقدِّم وثائق ملفّقة لإرجاع السّودان إلى قائمة الدُّول الراعية للإرهاب، إذا ما وجدَ أنّ وزن عبد الفتّاح البرهان قد زاد قليلاً.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى