ريبيكا هاملتون يكتب:نصرالدين عبد البارئ طالب جامعة جورجتاون الذي أصبح وزيراً للعدل  (3-3)

كان يستعد لحياة أكاديمية، إلا أن الحكومة الجديدة في وطنه كان لها رأي آخر

ريبيكا هاملتون هي أستاذة في كلية القانون بالجامعة الأمريكية في واشنطن. نُشر هذا المقال في مجلة واشنطن بوست في الخامس من فبراير ٢٠٢٠، وذلك بدعم من مركز بوليتزر للإبلاغ عن الأزمات.

ترجمه إلى العربية عبد الخالق شايب وهو قانوني سوداني يقيم ويعمل بمملكة البحرين.

إن عبد الباري هو أكاديمي بالفطرة، فهو مثقف ورَزِين بشكل ملفت للانتباه. وظهر فيه النبوغ في وقت مبكر. ففي مدرسته الابتدائية في منطقة فقيرة يُكدس فيها 120 طالباً في الصف الواحد في فصل دراسي ذي أرضية ترابية، كان يطلب من الطلاب إعادة تسميع دروسهم كل صباح. أخبرني معلم عبد الباري، الأستاذ عبود كودي، أنه في الصف الخامس، عندما كان الطلاب في بدايات مراحل تعلمهم لحروف الأبجدية الإنجليزية، كان عبد الباري يُسمّع دروسه بيسر كبير باللغة الإنجليزية.

يعود عبد الباري بذاكرته ويقول: “لقد شُغِفتُ باللغة الإنجليزية”. “لم أكن أعرف حتى ماذا سوف أفعل بها. أردت فقط تعلمها”. بينما كان إخوته يتجهون للعب كرة القدم بعد المدرسة، كان عبد الباري يَعْرُجُ على منزل أحد الطلبة الذي كان أكبر سناً منه في الحي الذي يقطن فيه، بغية الاطلاع على كتبه الدراسية باللغة الإنجليزية. يقول عبد الباري: ” كنت أطلب منه أن يخبرني بمعنى كل كلمة. كنت أكتبها باللغتين العربية والإنجليزية، لأعيد دراستها وحفظها. ”

إن زملاء عبد الباري الذين درسوا معه في جامعة الخرطوم يذكرون ولَعَه الشديد بالدراسة. يقول محمد حسن التعايشي، أحد أصدقاء عبدالباري منذ أيام الجامعة وعضو مجلس السيادة عن أحد المقاعد المخصصة للمدنيين، كان عبد الباري دائماً مسرع الخُطى نحو المكتبة.

بعد فترة من العمل بالتدريس محاضراً بجامعة الخرطوم، سعى عبد الباري إلى الحصول على منح دراسية في الخارج لمواصلة دراساته العليا. والتقيتُ به عندما كنا ندرس معاً في كلية القانون بجامعة هارفارد في عام 2007. لم تكن تجمعنا أي فصول دراسية، ولكن بعد ثلاث سنوات من تصنيف الحكومة الأمريكية للفظائع الوحشية في دارفور على أنها أعمال إبادة جماعية، علمتْ حينها كل المجموعات الطلابية التي كنت جزءاً منها أن عبدالباري ينحدر من إقليم دارفور.

 

وبقامة تسمو على بقية الطلاب، وبملامح بدا عليها الشعور الدائم بالبرد في طقس مدينة بوسطن، كان من المستحيل أن تخطئه العين في حرم الجامعة. لقد تابعتُ مسيرته المهنية منذ ذلك الوقت، حيث نال زمالات أكاديمية عديدة وعمل في وظائف استشارية، ولاحقاً أصبح مواطناً أمريكياً. وفي عام 2018، تزوج من طبيبة سودانية متخصصة في جراحة المخ والأعصاب، تعيش في مدينة لندن.

كانت خطة عبد الباري تتمثل في إنهاء أطروحته لنيل الدكتوراه والالتحاق بزوجته في لندن لينخرط في أبحاث ما بعد الدكتوراه. بعد قضائه عمراً في التحصيل الأكاديمي، كان عبد الباري يتوق إلى الاستقرار وامتهان التدريس كأستاذ قانون، ليؤمن له دخلاً ثابتاً ويعمل على بناء أسرة. إنْ شغل منصب حكومي رفيع المستوى في بلد انتزع للتوِ حريته من ديكتاتورية دامت 30 عاماً يأتي على النقيض من رؤيته للمستقبل. في نهاية المطاف، ورغم كل ذلك، أفضت نقاشات مع والدة زوجته وأصدقائه إلى قبوله لترشيح قحت. قالت له والدة زوجته: “هذه فرصة تاريخية لا تتأتَّى للجميع. بدلاً من كتابة مقالات بحثية حول ما يجب القيام به، سوف تتمكن من إنزال ذلك على أرض الواقع بنفسك “.

لولا أن لوحة الاسم المعدنية على مكتب عبد الباري تحمل اسمه منقوشاً عليها كوزير للعدل، فلن تجد في مكتبه أي دلالة توحي بوجوده. إنه ذات المكتب الذي شغله من سبقه: اللوحة الزيتية خلف المكتب، الآية القرآنية على الحائط، والجوائز التي منحها النظام السابق لوزارة العدل على الطاولة الجانبية، والسكاكر في الأطباق المطلية بالذهب موجودة في مكانها كما هي منذ أن وصل.

في اليوم الأول قابلت عبد الباري في مكتبه، سألته لماذا لم يضع لمساته حول المكان ليعكس شخصيته. من الواضح أن هذا لم يخطر على باله. هز كتفيه. وقال “لم أفعل، لقد شَرَعت في العمل مباشرة”.

لم يكن عبد الباري غير شخص مقيم بشكل مؤقت في مكان ينتمي إلى مالك مستقبلي، حيث يعكس جدول عمله شخصاً يسابق الزمن. قال لي: “السودان لم يتم تأسيسه قط كدولة حديثة”. “نحن بحاجة للقيام بذلك الآن. إنها فرصة لن تأتي مرة أخرى. يجب على الحكومة التي تأتي في عام 2022 أن تجد كل الأسس موضوعة، حتى لا تضطر إلى البدء في بنائها”. فجأة، أدرك سيل الكلمات التي تدفقت منه بحيوية كبيرة، ثم ابتسم. يبدأ يومه في الساعة 6 صباحاً، بينما يغادر المكتب في الساعة الثامنة أو التاسعة مساءً، لا يجد وقتا للراحة إلا عند تناول العشاء ليواصل العمل من المنزل حتى بعد منتصف الليل.

جميع المعاملات تتم بشكل ورقي داخل أروقة وزارة العدل، حيث لم تنتقل الوزارة بعد إلى المعاملات الإلكترونية. وهذا يخلق حالة واضحة من الإحباط لعبد الباري، الذي اعتاد على مستوى أعلى من الكفاءة بعد قضائه لعقد من الزمن في الولايات المتحدة. هنالك مسائل أخرى على بساطتها تَزحَم وقته. لا يجيد أي من الموظفين الإداريين في الوزارة اللغة الإنجليزية بالقدر الكافي لجدولة مواعيد مع مجموعة من الممثلين الغربيين الذين يتوقون إلى اغتنام الفرصة النادرة التي أتاحتها الديمقراطية في السودان.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى