د. عثمان البدري  يكتب : إرجاع الصادر الحي درس بليغ في كارثية السياسات الاقتصادية..

رشح مؤخراً وبعد تفاقم أزمة إرجاع صادر الحيوانات الحية خاصة من قبل المملكة العربية السعودية أن هنالك تضارباً بين المؤسسات ذات الصلة.. وزارة  الثروة الحيوانية والمحاجر وهيئة الموانئ البحرية ووزارة التجارة والبنك المركزي في التعامل مع صادرات

الثروة الحيوانية الحية… وهي ابتداءً عملية وجريمة يندى لها الجبين أن تصدر في القرن الحادي والعشرين وفي وقت توفرت فيه كل إمكانات التجهيز.. وهي من أبسط الصناعات إن اعتبرناها صناعات ابتداءً… أن نصدر حيوانات حية، معنى هذا أن نحرم السوق المحلى من زيادة عرض بروتينات هامة، وأن نفقد على الأقل خمسة وسبعين بالمائة من القيمة المالية التي كانت ستعود بالخير على كل مفاصل الاقتصاد السودانى وعلى كل شركاء سلاسل القيم والعمليات وهذا مسؤول على الأقل عن ثمانين إلى تسعين  بالمائة من فقدان الجنيه السودانى لقوته الشرائية وقيمته التبادلية مقابل العملات الأخرى وعن نسبة لا تقل عن ذلك من نسب التضخم. كل المطلوبات لإيقاف تلك الممارسات المتخلفة من أفراد متآمرين ومؤسسات

من المعلوم بداهة للكل أنك ان لم تستوف استخراج كل القيمة النهائية من سلسلة قيم الإنتاجية المتاحة Added Value Chain فإنك تخسر خسائر صافية في كل مكونات العملية الاقتصادية. تخسر وظائف وعمالة ودخولاً وضرائب وتخسر عائدات كبيرة في إيرادات العملات الأجنبية، وبذا تضعف احتياطيات البنك المركزي من العملات الصعبة وتخسر القوة الشرائية للعملة الوطنية، وكذلك القيمة الفعلية للدخول وتخسر كذلك من التآكل في القيمة التبادلية للجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية القابلة للتداول الحر، وبذلك تضعف أيضًا مقدرات الدولة للإيفاء باحتياجاتها السيادية والأمنية الضرورية والاحتياجات الأساسية الاستهلاكية والتنموية للبلاد والمواطنين. وبذا تستمر الدولة في الضعف والانهيار.

لعل الحديث الدائر هذه الأيام عن إرجاع صادرات الماشية   الحية من الموانئ الخارجية وخاصة العربية بحجج متفاوتة. منها عدم الخلو من الأوبئة وعدم استيفاء مطلوبات الحجر والتطعيم والأوزان و الأعمار و غيرها. وبعضها تبريرات مضحكة لا مثيل لها في العالم ولم تشكُ أية دولة من الدول المصدرة للماشية منها مثل الشحن على مواعين شحن غير مستوفية المطلوبات، وهي المطلوبات التي يستوعبها الجميع في العالم ولم نسمع أو يسمع العالم بإرجاع الماشية لأنها تم شحنها على معدات غير مستوفية. فهل سمع الناس بإرجاع ماشية مصدرة من أستراليا أو الأرجنتين أو البرازيل او سوريا أو الأردن؟ قطعًا لم يحصل وإلا تم إعلانه كارثة قومية. كيف لمصدر يشحن حيواناته الحية أو بضائعه على مواعين شحن غير مستوفاة ثم يشكو. يشكو لمن وهو الشريك الأساسي في الكارثة.

معلوم أن هنالك نظماً واتفاقيات في أنظمة التجارة العالمية تنظم كل ذلك بدقة، وقد ظللت وغيري من الأساتذة ندرس برامج التجارة الدولية لعشرات السنين، و حضَّرنا عشرات الدورات والبرامج داخل وخارج السودان حول  التجارة الدولية ونظمها وترتيبات مفصلة تمامًا لتشجع التجارة العالمية وتحفظ حقوق المصدر والمستورد والمستهلكين، ومثالاً لذلك هنالك عدة اتفاقيات تنظم تلك الصادرات والاتفاقيات الخاصة بأنظمة صحة الإنسان والنبات والحيوان، من ذلك الاتفاقيات الخاصة بصادر اللحوم الحمراء والبيضاء

Bovine Meats Agreement

وهنالك اتفاقيات الفحص قبل الشحن

Preshipment Inspection Agreement

التي تصدر الشهادات الدولية الموثقة والتي بموجبها يتم الشحن وتصدر بوالص التامين Insurance للبضاعة المصدرة وتحدد التزامات كل الأطراف وهنالك نظم و بروتكولات حل النزاعات والتحكيم

Dispute Settlment and Arbitration

في حالة نشوء أية منازعات.

فهل أخذنا كل ذلك في الاعتبار أم لا زلنا بنفس الطرق والممارسات القديمة وأخطرها أننا لا زلنا وفي القرن الحادي و العشرين في  غمرة الممارسات البائسة، وأننا لا زلنا نصدر مواردنا رسمياً أو تهريباً فيما يعرف بصادر الخام أو الحي وهي وصفة كلاسيكية مضمونة النتائج في استدامة الفقر والتخلف والضعف أننا لا زلنا نصدر الموارد… وغشنا لأنفسنا  نسميها خاماً… وتأتينا منتجات جاهزة للاستهلاك النهائي بأضعاف ما تحصلنا عليه من حصائل الصادر، والتي يسود فيها منذ زمن عدم إرجاع الحصائل وتجنيبها بالخارج، وتلك القصة المشهورة التي كان بطلها وضحيتها المرحوم الدكتور محمد يوسف أبو حريرة وزير التجارة الأسبق في الحكومة الإئتلافية بين الحزبين الكبيرين برئاسة السيد الصادق المهدي والذي حين سُئل بعد إعادة التشكيلة الحكومية بدون الدكتور أبو حريرة لماذ تم إعفاؤه أجاب أن أبو حريرة وجد شطة في الجو فعطس.. وحتى الآن لم يعطس أحد من الحكومة، بالرغم من أن رئيس الوزراء الحالي الدكتور عبد الله آدم حمدوك قد صرح قبل وبعد تسنمه للحكومة، أنه لا بد من إيقاف صادر الخامات ونؤكد له أن كل إمكانات التجهيز والتصنيع لكل المنتجات موجودة وقائمة وفائضة لغزل ونسيج وتصنيع المنتجات القطنية والزيوت والأعلاف والمسالخ ومعاصر الزيوت(طاقة العصر الجاهزة) حوالي مليون طن ونستهلك مائتين وأربعين ألف طن ومع ذلك نستورد سبعين إلى ثمانين ألف طن ونصدر حبوباً زيتية)  وتجهيزات منتجات الأصماغ وكل ذلك متاح ويمكن أن يؤدي إلى حل كثير من المشاكل مثل البطالة والتضخم وإعادة الجنيه السوداني لما كان عليه، وبناء احتياطيات  الحكومة ببنك السودان المركزي. في زمن يبدأ منذ الآن ولا يتجاوز بأية حال الثلاثة أعوام  ليبلغ مداه. فهل هنالك من يعطس قبل أن يتمكن الالتهاب الحاد والكورونا الاقتصادية من رئة ومفاصل  الاقتصاد والمواطن والدولة السودانية؟ ويجب أن

تخضع كل الجهات التي شاركت في تلك الكارثة للتحقيق من قبل لجنة مفوضة من كفاءات محايدة يقوم  أعضاؤها بعد أداء القسم بالإفضاء والإفصاح عن أية مصلحة لأي أحد فيها  مع أي طرف. لقد قام الملك الحسن الثاني رحمه الله بتكوين لجنة ملكية في التحقيق بعد أن انخفضت في سنة من السنوات صادرات الخضر والفاكهة المغربية من مليون طن إلى تسعمائة وأربعة وثمانين ألف طن.. ولجنة ملكية هنالك تعني أنها تتخذ من الديوان الملكي مقراً ومن حقها أن تستدعي حتى رئيس الوزراء… و لقد اسمعت لو ناديتَ….

وربما لنا عودة وتفصيل إن شاء الله

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى