كواليس السلام

 

  الخرطوم : مشاعر عثمان

استيقظتُ على صوت المضيفة إثر غفوة قسرية بين طيات السحاب، وأنا أترنم برائعة النور الجيلاني، يا مسافر جوبا، ودع قوم.. سيب الخرطوم..

كانت الشمس ترسل أشعتها الذهبيه لدقائق ليخيم السحاب على سماء جوبا الماطر لتتشكل لوحة طبيعية باذخة الجمال، غيم دافق وبرودة طفيفة، وأمطار تهطل دون استئذان ودون سابق إنذار أو برق ورعد..!!

في تلك المدينة الساحرة يستيقظ الناس باكراً في همة ونشاط وهم خليط من جوبا أوجوبيك تنام أو ينام الناس أيضًا باكراً رغم أنس السمر هناك، كما أن في بعض الفنادق والنوادي الليلية لا تتجاوز الحادية عشرة مساء.

حلال العقد

في كل الأحوال، هذه صورة بسيطة عايشناها لأكثر من عام نوثق إعلامياً لمفاوضات السلام التي احتضنتها جوبا عاصمة جنوب السودان بين الحكومة الانتقالية وحركات الكفاح المسلح..

وبكل محبة وحب وسرور لم يقابلنا وجه عابس داخل ردهات التفاوض.. حملونا على أكفف الراحه في كرم حاتمي فياض برئاسة مهندس اتفاقية السلام الذي اختاره الرئيس سلفاكير ميارديت، بعناية فائقة ومواصفات خاصة المستشار توت قلواك والذي تشهد له أضابير المفاوضات أنه “حلال العقد” فكلما يضيق المفاوضون ذرعاً ببعضهم البعض سرعان ما يحول الصمت والوجوم إلي ضحك بروح لطيفة وحكمة مشهودة وقفشات وضحكات… فضلاً عن مقدرته العالية على احتواء الخلافات بين الطرفين داخل وخارج قاعات التفاوض فتوت قلواك رجل أيضًا بصماته واضحة هنا وهناك..

ضيو مطوك

أو كما يحلو للجميع مناداته سلطان ضيو.. مهندس الأوراق تخلفه سكارتارية هميمة من رمضان إلى ماركو ظلت تعمل بنشاط وحيوية حتى لحظات التوقيع النهائي.

حسم فوري

لا يُذاع سر أن الجانب الحكومي يقوده، الفريق أول محمد حمدان دقلو حميدتي النائب الأول لرئيس  مجلس السيادة.. رجل السلام كما أطلقت عليه قيادة دولة الجنوب.. فالرجل يتمتع بالحسم الفوري رغم بساطته التي عرف بها لقضايا كثيره أوصدت أبوابها إلا أن تدخله ذوّب كثيراً من الخلافات بحكمته المعروفة.

خبرة ثرة

الفريق أول شمس الدين كباشي والفريق ياسر العطا جنرالا الجيش السوداني يتمتعان بخبره ثره يعقبهمها  المهندس محمد حسن التعايشي الرجل الصبور كما وصفه توت قلواك.. والأستاذ محمد الفكي سليمان.

كذلك الفريق أول جمال عبد المجيد مدير جهاز المخابرات العامة الرجل الذي يعمل بصمت  ربما فرضته حساسية وطبيعة الوظيفة… والأستاذ يوسف الضي وزير الحكم المحلي والذي خبر اضابير وقضايا الحكم المحلي والفيدرالي.

إدارة بحنكة

على الضفة الأخرى، نجد الجبهة الثورية يقودها د. الهادي إدريس الرجل الذي أخذ من اسمه كثيراً، فبرغم تقاطع المسارات المختلفة، إلا أنه استطاع إدارة الجبهة الثورية بحنكة، فلكل مسار قضية ورؤى، وأفكار مختلفة وعرقيات وإثنيات متعددة، مسارا الوسط والشمال، ثم الشرق ثم المنطقتين ودارفور، التي يضم مسارها خمس حركات كفاح مسلح لكن رؤيتهم التفاوضية واحدة.

روح طيبة

كثيراً ما تعصف النقاشات بجلسات التفاوض  التي تنعقد بقاعات فندق برميد الفخيم، المقر الرئيسي لمفاوضات السلام، نجد القائد مني أركو مناوي أكثر المفاوضين صعوبة ومشاكسة، إلا أنه يحمل قلبًا طيبًا وروحاً طيبة خارج طاولة التفاوض.

هدوء وزهد

جبريل إبراهيم رجل هادئ وزاهد، عرف بصيام يومي الإثنين والخميس للمقربين منه، رغم وجود قادة سياسيين محنكين في الحركة، إلا أنه نجد بالقرب منه  الكنداكة الثائرة د. إيثار خليل إبراهيم ابنة شقيقه مؤسس الحركة والتي أسند لها في كثير من الأحيان التوقيع على الاتفاقيات، فهي تمثل الحركة وتمثل جيل الثورة وشباب التغيير.

مالك عقار

الجنرال عقار، أو كما يحلو  لرفاقه مناداته (ببنج) يتميز بصرامة، تعكس خبرته العسكرية والسياسية الطويلة، لكنه في ذات الوقت رجل طريف وسريع البديهة وحاضر النكتة، ربما تلك الصفة اكتسبها من قربه من الراحل جون قرنق والذي عرف بذلك.

رجل المسبحة

التوم هجو أو شيخ التوم كما يحلو للناس مناداته، رجل هميم، سريع الخطى، ذو حركة دائبة،  لا تفارق المسبحة يده والابتسامة محياه. كثيراً ما كان يقود مبادرات شخصية للوصول لتوافق حول بعض القضايا التي يدور حولها خلاف.

أصغر الشباب

خالد إدريس أصغر رؤساء المسارات.. الشاب الذي خلف القائد الأمين داؤد، حيث شهد هذا المسار خلافات حادة أدت لإبعاد الأخير عن القيادة وعن المشهد تماماً، لكن تظل أسرار هذه الخلافات في جعبة الحكومة السودانية ووساطة جنوب السودان، أيضاً ملف الشمال الذي يضم حركة كوش بقيادة محمد داؤد، وكيان الشمال بقيادة محمد سيد أحمد الشهير بالجاكومي، تخللته خلافات  طاحنة من سيوقع ومن سيرأس.

اهتمام دولي

وجدت مفاوضات جوبا اهتماماً دولياً وإعلامياً واسعاً حتى إن المبعوث الأمريكي دونالد بوث، كان يتابع المفاوضات شخصياً وللطرفة  فقد حفظ بعض أعضاء البعثات الدبلوماسية كلمة متفقين فحينما لا يجدون تقدماً أو ابتسامات يقولون ما في  متفقين فيضحك الجميع.

الترتيبات الأمنية

ملف الترتيبات كان شائكاً، ولعل وفاة وزير الدفاع السابق الفريق أول  جمال عمر رحمه الله، أربك الملف، لأنه قطع شوطاً كبيراً في دارفور، المنطقتين، وتوفاه الله، واضطر الطرفان إلى إعادة الجلسات من جديد، حيث مر هذا الملف برياح عالية هدأت أخيراً على شط السلام..

سماحة الشعب السوداني كانت تظهر جلياً خارج قاعات التفاوض، الطرفان يتآنسون وتعلو الضحكات هنا وهناك، تجد التعايشي مع عرمان وتجد الكباشي مع الهادي إدريس وتجد توت بصحبة مني أركو وكثير من المواقف والمشاهد التي تؤكد عظمة الشعب السوداني.

الهادي إدريس

ظل الرجل في حالة تقديم دعوات ولائم لكل أطراف التفاوض يدعو بالهاتف شيخ التوم هجو وأسامة سعيد وآخرين لتناول الوجبات الدارفورية معه كذلك سعادة النائب حميدتي يشهد الفطور معه يومياً عدد كبير يتسابقون على قدح العصيدة بالسمن، وهو بمثابة  إفطار دائم  للنائب، كذلك لا تخلو غرفة الفريق كباشي من جنرالات الجيش، صبير، خالد عابدين، فقيري، وآخرون في شوقهم للقراصة والعصيدة، ومن بينهم بروف دبيلو رئيس مفوضية السلام الرجل الذي يعمل في صمت بلا ضوضاء.

حفلات وولائم

يحرص أيضاً المستشار توت علي إقامة حفلات وولائم، مختلفة لكل الوفود حينما يحس بركود، أو تعثر المفاوضات.

وجود واهتمام عربي وأفريقي ملحوظ، إذ شهد المفاوضات وفد قطري وإماراتي، فضلاً عن ممثل مصر وممثل المملكة العربية السعودية بجانب وفد تشادي وممثلي الإيقاد والبعثات الدبلوماسية الأخرى.

لفت انتباهي اهتمام المواطن الجنوبي بالمفاوضات اهتماماً بالغًا بكل محبة مما يعكس الترابط الوجداني القوي بين شعبي البلدين.

كما أن أكثر من يتمتعان بشعبية  وسط الجنوبيين، كمرد مالك عقار والقائد، مني أركو مناوي.

أجواء الدكة الأولى

دعونا نقول أن ترقباً وتوتراً وتوجساً ورتابة سادت أجواء المفاوضات عند الدكة الأولى، إلا أن إرادة الطرفين ورغبتهما في تحقيق سلام حقيقي بجانب إرادة دولة جنوب السودان النصف الآخر للوطن الكبير، كل ذلك أدى إلى نجاح العملية التفاوضية وتوقيع السلام النهائي، إضافة إلى الروح التي يتمتع بها الفريق حميدتي والمستشار  توت التي أدت إلى كسر جمود العملية التفاوضية وتسلسلها حتى بلغنا هذا الموعد المضروب، متمنين  أن يعم السلام والاستقرار ربوع الوطن الحبيب.

عرمان.. تجارب مختلفة

كمرد ياسر عرمان أيضًا محبوب لدى الجنوبيين، ويتمتع بعلاقة خاصه مع ربيكا قرنق لعله أحد أبناء د. جون قرنق الخلص الأوفياء، فضلاً عن أن عرمان يعتبر أكثر تفهماً للقضيه السودانية، فهو ابن الشمال الذي عركته تجارب السياسة والميدان.

الحلو.. ممنوع الاقتراب

كمرد عبد العزيز الحلو وأركان حربه عمار أمون وآخرون، كانوا كالحلقة المغلقة مكتوب عليها ممنوع الاقتراب والتصوير وهو وفد التفاوض الوحيد الذي لا يسكن في مجموعات التفاوض المختلفة. ولا يتحدث، ولا يتآنس يتميزون بغموض وجدية صارمة تبدو علي وجوهم حينما يأتون لقاعة التفاوض ومنها إلى سياراتهم  حتى الإعلام يصرحون له وفق هواهم. موقف وفد الحلو في المفاوضات ككاودا عصية لا تفتح أبوابها إلا بأمر جنرالها عبد العزيز الحلو.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى