محمد محمد خير يكتب: سافرت/ عدت

 

 

قال نزار قباني ذات منمنمة له: سأغتالك يا وطني بالسفر. أحسست طعم هذا البيت وأنا أدخل صالة مطار الخرطوم الذي لا علاقة له في كل خصاله بمفاتن مطار تورنتو. في تلك اللحظة استشعرت كبرياء الفقر وزاد حبي للسودان وتضاعف ذلك الوجدان العبق وأحسست أن الفقر كان سعيداً!

هنالك مرض روحي يمكن أن نسميه (شوق الروح في الأعصاب)، قطعاً أنا مصاب به، ولا سبيل لي للشفاء منه فأنا (ممكون) وممروض وسقيم ودوائي هو هذه الديار، بفرحها ونزفها، بخلافاتها واتساقها، بأشواقها للصفاء وباستحالة الروقان، بتطلعها نحو ما تريد بصدرها المكشوف وعنقها الملوي.

لأن شعبها (شايل في طبعو الجماح). حين سدّدتُ النظر لمن كانوا في المطار وأجريت مقارنة بالعاملين في مطار تورنتو صفعت خيالي بيدي لأنها لا يجرؤ على عقدها إلا شاعر متهدِّم. لكن نفسي في تلك اللحظة امتلأت بي وامتلأت بها، فذلك تقدير الله وليس بمقدور أي عنق أن تمتد بأكثر مما قسم الله لها.

حين خرجت من صالة المطار أحسست أنه لزاماً عليّ أن أقدم اعتذاراً داوياً لكل حبة رمل في تراب البلد فأنا لولا المرض ولولا قلة حيلة الطب في بلدي لن أركب طائرة لأبدل هذا الأكسجين بهواء آخر. هواء من العصي عليَّ تنفسه حتى آخر العمر. عبأت صدري بذلك النسيم الذي استقبلني باشاً حتى كدت إفراغ مجاله الجوي (يا نسيم بالله احكيلو تباريح شوقي وهيامي)!.

في تلك اللحظة أحسست بأني أحب كل شيء في السودان الأمجاد والركشة والهونداي. الجمال والبقر والخراف والعجول الضوارع. الكلاب المتسولة والقطط النحيلة وكل الطيور والنساء الشبيهات بالطير. مازلت أصر أن بعض البنيات في بلدي فيهن طباع الطير فأنا لا أشقشق إلا حين يغردن!!

أحسست بأني أحب الجميع، دكتور بلدو وسليمان بلدو وحيدر إبراهيم والمسلمي الكباشي وعالم عباس وأبونا فليوثاوس فرج وفيصل الباقر وعوضية عذاب وحنان مس كول وعادل الباز، وأحسست أنني عضو الحزب الشيوعي والمؤتمر السوداني وحزب سانو وعضو حزب الأمة وجميع فصائل الاتحادي وكل أجنحة البعث ولم أخف على نفسي هيامي بكتابة محمد عثمان إبراهيم والنور حمد ورصانة خالد التجاني واندهاشي المتجدد بكل إشراق عثمان ميرغني.

صفاء اجتاحني من فروة الرأس حتى قوس الأظافر. ليت السحاب الذي عندي صواعقه يزيلهن إلى من عنده الديم.. رحم الله المتنبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى