محمد محمد خير يكتب.. التعارُف بالعطر

تلك حادثة غريبة حدثت لي في مُستهل هجرتي.. ففي ذات ظهيرة رَنّ التلفون رنيناً يُنبئ بأنّ المُحادثة من إقليم غير إقليم أونتاريو حيث أُقيم.. رفعت السّمّاعة فإذا بي أشم رائحة عطر من سماعة التلفون! وقبل أن أقول «هلّلو» غاص أنفي في رائحة ذلك العطر الذي لَم أشمّه من قبل وحسبت تلك رائحة عطر تسلُّل من يد إحدى السودانيات اللائي يزرننا للتعارف.. وعندما قُلت «هلّلو» ازدادت رائحة العطر؛ إذ إنّي سَمعت صَوتاً أنثوياً مُعطّراً ينبعث من امرأة في حلقها «ساكسفون». سألتني بنغمة مدوزنة: هل أنت مستر أحمد؟ أكدت ذلك الاسم المنسوب لجدي محمد أحمد ود الرزوقة الذي توفي في الخمسينيات تحت نخلة في تنقاسي.. وكان رحمه الله – كما رُوِيَ لنا – رجلاً كلفاً بالنساء.. وكلما رأى امرأة جميلة صاح بلهجة الشايقية «يا ربي الكريم وين أمشي… يا خالق الحريم وين أمشي؟!» أشكر لجدي فضله الممتد!

هنّأتني تلك المرأة العطرية بسلامة الوصول وعرّفتني أنها تعمل لصالح منظمة تهتم بالكُتّاب والشعراء، خاصّةً المهاجرين منهم، ثم أعطتني تلفونها وفاكسها و«إي ميلاتها» وكل الجسور التي تسلك لرائحة العطر الذي يأتي عبر سمّاعة التلفون! وانتهت المُحادثة فاختفى العطر تماماً.. وبعد دقيقة اتصل بي صديق تشممت من صوته ما لا يصلح للنشر.

وهكذا أصبحت في حيرةٍ من ظاهرة العطر الذي انبعث من هذه المرأة لزمنٍ طويلٍ.. وذات مرّة تلقّيت دعوة من لجنة حماية الصحفيين الكندية لحُضُور حفل تبرُّعات لإذاعة صوت نيجيريا الحرة التي يشرف عليها الأديب العالمي وولي سوينكا بهدف جمع تبرُّعات للإذاعة، وفي القاعة وأنا مشدود لسوينكا، طاف عليّ نفس العطر الذي تشمّمته من قبل على سَمّاعة التلفون من شانيل عن طريق الجاذبية العطرية فلاحقت رائحة العطر بأنفي.. أمشي على القاعة والعطر يقُودني لحيث منابعه مثل كفيف يرى بالقلب حتى انتهيت لركن في القاعة يجسد منبع العطر مثل بحيرة فكتوريا التي يتجدول منها ماء النيل، وفي جُرأةٍ سألت بتاعة العطر: أأنت شانيل؟ قالت: أجل، وسألتني: أأنت أحمد؟ فقلت: بلى، ثم سألتها عن خاصية عطرها الذي ينتقل عبر أسلاك التلفون، والذي أصبح وسيلة تعارف بين الشعوب، قالت لأنني من الإقليم الفرنسي.. تذكّرت أن عبد الملك بن مروان قال لرجل من غطفان: صف لي أحسن النساء فقال: الملساء القدمين, الردهاء الكعبين, الناعمة الساقين, الكحلاء العينين, الزجاء الحاجبين, الرخصة الكفين, البلجاء الجبين, الشنباء الثغر, الغيداء العُنق, والمُتكورة البطن, فقال عبد الملك: ويحك وأين تُوجد هذه؟ فقال: في خالص العرب وفي خالص الفرس.. ولو كان سؤال عبد الملك لي لقلت له: «الكونية مثل الإنترنت، المحفوفة مثل الديسك، النفّاذة في الأسلاك، المجلبة للهلاك، الشمّاء الرنين، المُفضية للحنين، أولها شانيل وآخرها كوكتيل»، ولو سألني: أين أجدها أيها السوداني؟ فسأقول: في الإقليم الفرنسي يا متّعك الله برائحة العطر.

انتهت الندوة و«طبق» سونيكا التبرُّعات لتصدح إذاعة نيجيريا الحرة المُسمّاة على زوجه إيبولا، وتفرّق الخواجات واختفت شانيل، لكن عطرها ظل في أعصابي فقد كنت أشمه بالأنف والأذن والحنجرة ثُمّ عدت لمنزلي فانتهرتني زوجتي ذات الجذور العائدة لإقليم «الحسانية» دُون مُراعاة لمشاعري المُتفرنسة في تلك اللحظة وعطري الذي لا يشمّه سِوَاي، ورغم فظاظة كلماتها كُنت أقول لها: «بونسوار» فالإقليم الفرنسي يلزم الالتزام بالصبر وصون فوح العطر. كانت تنتقدني لأنّني عُدت مُتأخِّراً وكُنت أسكن صفائي النابع من أشعار جان سار بيرس وأقول لها «مرسي».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى