محمد فقيري يكتب :  دَوَّامة التّوْهـــان بين تعاليم الإسلام وسلوك المسلمين الإلتصاق الصفيق والبُعد السحيق السودان نموذجاً (10)

 

الفقه لغةً واصطلاحاً:- (يعرّف الفقه لغةً بأنه الفهم والعلم بالشئ ، فيقال فقه فلان المسألة أي فهمها أو عقلها وعرف حلّها،) (وقد جاء لفظ الفقه من الفتق والشقّ نظرًا لأنّه يحمل معنى التّعمق في الأمر والتّبصّر فيه كمن يشقّ الشّيء ليكتشف ما فيه). أما الفقه إصطلاحاّ فهو إستنباط الأحكام من النصوص التشريعية.  ومُسمى الفقه أو الفقهاء لا يقتصر على فقهاء الدين ، ففي القانون، في كل الدول هناك فقهاء قانون ، مختصون في التفقه في القانون، أما الفقه الإسلامي فهو ما يأخذ منه قوانين الشريعة الإسلامية ، وهو مجموعة إجتهادات لعلماء أو فقهاء أو من يُسمْون برجال الدين، ورجال الدين مصطلح في حقيقته سياسي قديم جداً ، وُجد هؤلاء في كل المجتمعات البشرية ، وهم فئة تتخذ من الدين مظهراً للسيطرة على عقول البشر ، مظهر واحد في كل العصور ، ويكوّن رجال الدين على مر التاريخ إقطاعية دينية يتعايشون بها، وهم لا يفضلون هذا الاسم (رجال الدين) ، لدلالاته السلبية التي يعرفونها جيداً، ولذلك يفضلون اسم “علماء الدين” ، أو “أهل العِلم” ، أو (أهل الشأن) ، أو (أهل الحل والعقد) ، وقد وُجدوا منذ المجتمعات البدائية ، إذ كانوا يحتكرون المعرفة بكل أنواعها ، هم من يضعون القوانين ، وهم من يعالجون المرضى، وهم من يزوجون ويطلّقون ، وهم من يعلمون طريق الجنة ، وإذا أخذنا تاريخنا في وادي النيل كمثال ، فقد كانت شوكة الكهنة في السلطة أقوى من سلطة الملوك ، عندما ظهر الملك آمنحتب الرابع (إخناتون) ونادى بعودة عبادة الإله الواحد الأحد (آتون) ، دخل فى صراعٍ محتدم مع الكهنة اللذين استشعروا خطر ما نادى به إخناتون على مصالحهم وهيمنتهم الكبيرة. وقد انتهى هذا الصراع بمهاجمة كهنة آمون لمدينة تل العمارنة وقتل إخناتون، ومن ثم استعادة السيطرة والاستبداد باسم الدين مرة أخرى. وعندنا في السودان ، كان للكهنة في مملكة مروي الحق في تعيين الملوك وإقصائهم ، ولما جاء الملك الحكيم أركماني إلى الحكم أراد إجراء بعض الإصلاحات التي كانت سوف تضر بصلاحيات الكهنة ، فأرسل له الكهنة رسالة قائلين له أن الإله يطلب منه الإنتحار ، فما كان من أركماني إلاّ أن زحف بجيشه إلي معبد آمون النبتي في جبل البركل وإباد الكهنة عن آخرهم ، وألغي ألوهية آمون وعين الإله الأسد أبادماك إلهاً جديداً للمملكة.

وعند اليهود سيطر الحاخامات على الحياة بإعتبار أنهم هم فقط الذين يفهمون التوراة، وأفهموا الناس أن  مخالفتهم هي مخالفة لله، وان الخروج عليهم كفر. أما عند المسيحيين فحدث ولا حرج ، كانت الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع الميلادي تسيطر على مناطق واسعة من العالم، وكانت روما هي حاضرة العالم حينها، فيها أول برلمان في العالم، وتملك جيشاً ضخماً، كان الرومانيون قد إستفادوا من الإنتاج الفلسفي اليوناني، والأسئلة الفكرية الكبرى التي طرحها اليونانيون إرتكازاً على أفكار من سبقوهم من الحضارات الآشورية والبابلية والكلدانية وحضارة وادي النيل، وكانت الأسئلة الكبري نظرية عند اليونانيين، فأخذ الرومان في تطبيقها عملياً وكونوا بها واقعاً معاشاً فظهرت روما، كحاضرة لإوروبا كلها، وجاء قانون روما، وكونوا أول مجلس شيوخ  في العالم، وكونوا جيشاً عظيماً إحتلوا به مناطق واسعة ، وإنتشر التعليم، وإنتشرت الفلسفة بأفكارها وأسئلتها بصورة واسعة، ولكن، وفي منتصف القرن الرابع حدثت نكسة كبيرة لهذه الحضارة، دخل الجرمان وإحتلوا روما وهدموا الحضارة الرومانية، والجرمان شعوب بدوية محاربة، كانوا أميين لا يقرؤون ولا يكتبون، فمنعوا القراءة والكتابة والفلسفة، وإعتنقوا الدين المسيحي، في تلك اللحظة، وجدت الكنيسة فرصة ذهبية، لأن الفلاسفة والمفكريين كانوا ينتقدون الدين ويسألون عن كل شئ، ويودون فلسفة كل الأمور، وأصبح لهم آراء في الطبيعة وما وراء الطبيعة، وكانوا في حرب مع الكنيسة، فإنتهزت الكنيسة الفرصة وأيدت الجرمان في منع الفلسفة والقراءة والكتابة، وتسلط رجال الدين المسيحي على رقاب العباد، وقالوا للناس أن الكتاب المقدس يحتوي على كل العلوم، ولا علم خارج الكتاب المقدس، وعلى الناس أن يسألوا الكنيسة إذا أرادوا معرفة أي شئ في أي مجال، وإحتكروا حق تفسير الكتاب المقدس المكتوب باللغة اللاتينية التي لا يفهمها الناس، وقالوا إن الإنسان غير طاهر ولابد أن يتطهر عن طريق الكنيسة، وأن لا مجال لدخول الجنة إلاّ عن طريق الكهنة، ولا بد للإنسان أن يتحصل على صك من صكوك الغفران للوصول إلي الجنة، وهكذا دخلت أوروبا في عصور الظلام التي سُميت بالعصور الوسطى، عاشت أوروبا من القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر في ظلام كامل وتدهور مريع فى كافة مناحي الحياة، وعاني الفلاسفة والمفكرون الأمرين تحت رحمة رجال الكنيسة، الذين حاربوا كل شئ جديد، وكفروا العلماء، وأخذوا في قتلهم بتهم الزندقة، وسيطر رجال الدين على عقول البسطاء.

مع بداية القرن السابع الميلادي بدأت الحضارة الإسلامية، ومع نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية بدأت الحضارة الإسلامية في تطور وإذهار علمي وفكري وصل زروته مع خلافة المأمون في الربع الأول من القرن الثالث، أي العهد الذهبي، الذي تداخلت فيه الأفكار في كل المجالات، حيث تُرجمت كتب الفلسفة والمعارف الأخرى، ووصل التطور الفلسفي والفكري والعلمي مراحل عظيمة، فاُلفت الكتب في المنطق والفلسفة والكيمياء والفيزياء والرياضيات والطب والفلك والإجتماع، ثم وصلت هذه الكتب إلي أوربا في القرن الثالث عشر  الميلادي، وتُرجمت كتب ابن الهيثم والبيروني وجابر بن حيان وخرائط الإدريسي وغيرها، ثم لاحقاً وصلت كُتب ابن رشد وابن سينا والفارابي، وبدأ الأوربيون في الإطلاع عليها، وتأثر بها فلاسفتهم وعلمائهم الإنسانيين، اي المهتمين بالعلوم الإنسانية ، وهي العلوم التي قامت عليها النهضة الأوربية، وفي منتصف القرن الخامس عشر إخترع الأوربيون المطبعة، فإنقلب العالم راساً على عقب، أنتشرت الكُتب بصورة كبيرة وسريعة جداً، وتراكمت المعرفة، وبدأ الأوربيون في ثورتهم نحو التخلص من سلطة الكنيسة، التي كانت تعاكس كل العلوم الإنسانية، من أدب وفن وفلسفة وفلك، وتجرأ العلماء والمفكرون على الوقوف في وجه رجال الدين الذين أدخلوا تلك البلاد في عصور الظلام في المقام الأول، وبدأ العلماء والمفكرون على نشر إنتاجهم، وتنافسوا في إختراع كل جديد، وبدؤوا حرباً حقيقية للتخلص من إستبداد الكنيسة وتسلط رجال الدين، ونجحوا في ذلك، فبدأ عصر النهضة، حيث قاد العِلِم الإنساني الإنطلاقة الحقيقية، عانى العلماء والمفكرون والفلاسفة من بطش رجال الدين، فقد كُفروا وزُندقوا ، وحكمت عليهم الكنيسة بالسجن والتشريد والقتل، ولكنهم صمدوا وواصلوا في طريق النهضة حتى تحققت، ثم جاء عصر التنوير، فالعصر الرقمي، الذي نتقلب في فضائله العلمية كأنها من صُنع أيدينا المشلولة.

نواصل

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى