عاطف عبدون  يكتب : نحن وإسرائيل محاولة لإعادة وضع النقاط على الحروف

 

نحن جيل عندما نسمع مفردة “عدو” لا يذهب عقله إلا لإسرائيل، هكذا وَجَدْنَا آبَاءنَا وكَذَلِكَ أجدادننا يَفْعَلُونَ فإذا سألت أي سوداني ما الذي يجعلك تصف الإسرائيلي بأنه عدو لك؟ لن يجد إجابة مقنعة لتسمية الإسرائيلي بالعدو.

فلكي تصف أحداً بأنه عدو يجب أن تكون هناك أسباب عقلانية وموضوعية وواضحة تجعلك تعتقد أنه عدو لك فعلى سبيل المثال يمكنك أن تصف دولة احتلت أرضك أو لديها مطامع بأنها عدو لك، لكن في حال دولة مثل إسرائيل ليس بيننا عداء تاريخي أو حدود جغرافية ولم تبادر أبداً في مهاجمتنا أو نصب العداء لدولتنا أو لشعبنا، فلا يمكن وصفها بأنها عدو لنا كسودانيين، فالأصح أنها عدو للشعب الفلسطيني الذي من الطبيعي أن نتضامن معه في حدود دون أن نتبنى قضيته ونسمي عدوه بأنه عدونا نحن أيضاً.

فالتاريخ يشهد أن السودان هو من اعتمد إسرائيل عدواً مباشراً ووثق ذلك على جواز السفر، ثم صعد أكثر بمشاركته في حروب مباشرة وغير مباشرة ضد إسرائيل إلى أن اضطرت إسرائيل لقصف بلادنا كرد فعل لسنوات من تجاهل العداء من طرف واحد.

ضبط المفردة  

عندما نقول بأننا مع التطبيع مع إسرائيل ذلك لا يعني بأي شكل من الأشكال بأننا مؤيدون لسلوك دولة إسرائيل أو أننا سوف تتخلى عن مناصرة الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه وإقامة دولته، فعلى سبيل المثال نحن لا نؤيد احتلال الصين لدولة “التبت”، ومع حق شعب “التبت” في الاستقلال من الاحتلال الصيني و لسنا راضين عن السلوك القمعي الذي تنتهجه الصين تجاه “الإيغور”، ومع ذلك نحن في حالة تطبيع مع الصين ليس لأننا نتجاهل شر الصين العظيم، بل لأن التطبيع لا يعني التأييد، إذاً نحن فقط نتخذ نفس الموقف مع إسرائيل التي ندين سلوكها ونرفضه دون أن نقاطعها فالعلاقات السياسية بين الدول لا تؤخذ بمعيار الخير والشر وإلا انعزلنا عن كل الدول التي تمثل وجه الشر في هذا العالم.

ملكيون أكثر من الملك  

ربما لا يعلم الذين ينادون بمقاطعة إسرائيل بأن المواطن الفلسطيني رغم عدائه لإسرائيل لكنه لا يرى غضاضة  في أن يعمل في “تل أبيب”  أو أن يدفع الضرائب للحكومة الإسرائيلية، ولا ترى السلطة الفلسطينية غضاضة في مطالبة الإسرائيليين بحقهم من ضرائب العمال الفلسطينيين العاملين بإسرائيل،

ربما لا يعلم هؤلاء بأن ملايين الفلسطينيين يتعاملون مع شركات اتصالات إسرائيلية ويستخدمون (بطاقات هواتف) إسرائيلية رغم وجود شركات فلسطينية وأردنية، وذلك ينطبق على الماء والكهرباء والسلع الاستهلاكية، فالشعب الفلسطيني يفرق تماماً بين عدائه لإسرائيل وبين الواقع الذي يجعله يتعامل وبشكل يومي مع الشعب والحكومة الإسرائيلية، وربما لا يعلم هؤلاء بأن محمود درويش رمز المقاومة الفلسطينية كان عضواً بالحزب الشيوعي الإسرائيلي، بل وشارك ممثلًا في إحدى المهرجانات العالمية كعضو في وفد إسرائيل الشعبي، وربما لا يعلم هؤلاء بأن عرب فلسطين يشاركون الإسرائيليين في إدارة الدولة الإسرائيلية بل يتطوعون للعمل بالجيش الإسرائيلي ولا أحد يتجرأ بأن ينعتهم بالعمالة أو الارتزاق، لكن إذا طالب سوداني مثلي بالتطبيع مع إسرائيل لن يتردد سوداني مثلي بنعتي بالعميل والمرتزق والخائن.

أذكر أنه في ذات يوم كنا أنا وصديق بعثي سوداني في زيارة لصديقنا الفلسطيني “أبو حمدي” وهو من قيادات حركة فتح في المهجر، وبينما نحن نشاهد إحدى القنوات العربية جاء خبر عن مسيرة نسائية للتضامن مع غزة و”أبو حمدي” من أهل غزة حينها انتشى صديقي السوداني فخراً بان الخرطوم أو عاصمة خرجت لمناصرة غزة ضد الحصار الإسرائيلي ولم يتوقع أبدا رد “أبو حمدي” عندما قال ليه أنتم لديكم ما يكفيكم من المشاكل ومن باب أولى أن تتضامنوا مع ضحايا الحروب والنزاعات في بلادكم، وأضاف بأن المسيرات التي  تخرج بين الحين الآخر في دولة مثل السودان لن تفيد الشارع الفلسطيني في شيء فذهل صديقي السوداني واندهش “أبو حمدي” من عدم تقبل صديقي لحديثه فـ “أبو حمدي” يعلم أنني من دعاة تطبيع السودان مع إسرائيل ولم يعترض يوماً على ذلك كما يفعل صديقي محمد، وتلك هي مأساتنا أننا ملكيون أكثر من الملك.

العرق والدين

في ظني أن النزعتين الدينية والعرقية للمواطن السوداني  يشكلان أهم محورين في مسألة رفض التطبيع مع إسرائيل، فأما الذين يعتقدون أنهم عرب وبأن الدم العربي الذي يجري في عروقهم يحتم عليهم مقاطعة إسرائيل فأولئك يعتقدون أنهم عرب أكثر من الأردنيين الذين لا يرون في التطبيع أمراً ينتقص من عروبتهم أو نسبهم الهاشمي, وهذا شأنهم ومن حقهم ان يقاطعوا إسرائيل أو حتى إيران, لكن ما ليس من حقهم هو  أن يطلبوا منا نحن كسودانيين أفارقة ان نقاطع عدو إخوتهم في العروبة.

وأما الذين يبررون رفضهم للتطبيع لدواعٍ دينية فهاهم نفس الشيوخ الذين ظلوا يرفضون التطبيع باسم الله هم أنفسهم الآن يدعون للتطبيع باسمه, ضف إلى ذلك أن الذين يطالبون بقطع العلاقات مع اليهود يغضون أعينهم عن النصارى ففي معظم الآيات  جاء اسم النصارى مترادفاً لليهود مثل “وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ” أو “يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض”، فبما أن هؤلاء يبررون مقاطعة اليهود لدواعٍ دينية فلماذا لا يطالبون بمقاطعة النصارى أيضاً لذات الدواعي؟ أضف إلى ذلك أنهم لا يرون أي غضاضة في التطبيع مع دول لا دينية أو سمّها مشركة أو كافرة أو أياً كان اسمها, هل طالبوا يوماً بمقاطعة ميانمار أو الصين اللتين تعاديان الأقليات المسلمة على سبيل المثال؟

المبادئ 

متى ما ناقشت شيوعياً أو بعثيًا سودانياً عن أمر التطبيع فـسيحدثك عن “المبادئ التي لا تتجزأ” ورغم علمنا بأنها كثيراً ما تتحطم مبادئهم “عند أول صخرة حزبية” فـالبعثي على استعداد تام بأن يخلع جلباب المبادئ عندما تحدثه عن جرائم صدام حسين أو بشار الأسد، والشيوعي سيفعل نفس الشيء عندما تأتي سيرة “رومانيا تشاوتشيسكو” أو “روسيا ستالين” أو “كوبا فيدل كاسترو”، وذلك ليس ما يعنينا بالمقام الأول، بل إن ما يعنينا هو أن الشيوعيين والبعثيين السودانيين عليهم أن يوضحوا لنا ما هي الأشياء التي ارتكبتها إسرائيل دون سواها بين دول العالم حتى نقاطعها دون سائر الدول؟

هل إن إسرائيل دولة دينية؟ إذاً ماذا عن إيران على سبيل المثال؟ هل يجب أن نقاطعها لذات الأسباب؟ وإذا كانت الإجابة نعم لماذا لم يطالبوا بذلك من قبل؟

هل لأن إسرائيل دولة محتلة؟ ماذا عن الصين التي تحتل “التبت” وتعمل ليل نهار على تغيير التركيبة السكانية في مناطق الإيغور عبر توطين قوميات صينية في الأراضي المحتلة، هل يجب أن نقاطع الصين على سبيل المثال؟

هل إن اسرائيل دولة قمعية متسلطة؟ إذاً ماذا نحن فاعلون مع عشرات الدول التي تفوق إسرائيل في قمعها وتسلطها؟ إذاً ما الذي يجعل  الشيوعي والبعثي لا يرى من كل شرور العالم إلا شر إسرائيل  ولا يطالب إلا بمقاطعتها؟

ميكافيلية سؤال” الفايدة شنو 

برز في الآونة الأخيرة مبرر جديد متداوَل وسط السودانيين يتمحور حول سؤال ” الفائدة شنو؟” وهو سؤال يسأله الرافض للتطبيع ليس ليجد إجابة له بل هو شكل من أشكال الرفض مثل سؤال ” البديل منو؟” فكلاهما  لا يبحث عن إجابة بل هو رفض على شاكلة سؤال, لكن الإجابة التي لا تعنيهم ولن تقنعهم هي إن الفائدة المباشرة للتطبيع الآن تتمثل في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب, وهنا يجب أن أشير بأن كاتب هذا المقال ضد تماماً لآن يأتي التطبيع كـ ” لي ذراع” للسودانيين، وهذا يعني بالطبع أنني لست من أنصار ربط التطبيع بالفوائد لأن مسألة التطبيع لدي ليست ميكافيلية. وإذا عملنا بعقلية أن لا نقيم علاقات دبلوماسية إلا مع الدول التي سنستفيد من علاقاتنا فسوف تقاطعنا عشرات الدول وسوف نغلق نحن عشرات السفارات ونقطع علاقاتنا الدبلوماسية بحجة أننا لا يجب أن نقيم علاقة مع أي دولة ما لم تك هناك فائدة من وراء ذلك.

الصورة النمطية

لطالما عملت الآلة الإعلامية العربية عبر التلفاز والسينما والإذاعات والصحف والمجلات على تجييش الناس ضد إسرائيل وتصويرها على أنها مصدر الشر الوحيد في هذا العالم، وأنها الدولة الوحيدة التي تنتهك القانون الدولي ثم إعادة بث وتكرار الرواية الفلسطينية مع تغييب الجانب الإسرائيلي  في التاريخ والحاضر فلن تجد في الإعلام العربي أي تناول موضوعي لتاريخ اليهود في المنطقة سوى كتابات بعض الأكاديميين العرب بقلتهم ولن تجد أيضًا أي تناول موضوعي لشكل الممارسة السياسية داخل دولة إسرائيل أو عن تقدم إسرائيل وإنجازاتها العلمية على سبيل المثال, فالصورة النمطية التي ينقلها لنا الإعلام العربي عن إسرائيل تمثل الجانب المظلم لدولة إسرائيل، وبما أننا تلقّنا كره إسرائيل منذ طفولتنا فلا فائدة ترجى من إعادة بث ذات الخطاب العدائي ونقل ذات الوجه القبيح لإسرائيل، وبالمقابل بالطبع كنا سنستفيد إذا حدثنا الإعلام عن الكيفية التي تمكن بها شعب اجتمع من أنحاء العالم بأن يبني دولة بهذه القوة والجبروت، وكيف استطاع اليهود إعادة إحياء لغتهم وتراثهم، وكيف أصبحت إسرائيل الدولة الأكثر تأثيراً في العالم.

لا ثابت غير التغيير

التاريخ البشري يثبت لنا أن في هذا العالم ليس هناك ما هو ثابت إلا التغيير وحده، وكل شيء سواه قابل للتغيير, فلم تمض سوى بضعة قرون منذ أن هاجر المستوطنون البيض للأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا وفتكوا بالسكان الأصليين واحتلوا بلادهم وجلبوا أجدادنا كعبيد لبناء مستعمراتهم الجديدة التي هي الآن  دول تُصنف على أنها متقدمة, فكندا وأمريكا واستراليا ما كان لهم أن يكونوا بهذا الحال لولا أن التغيير كان هو سيد الموقف.

 خلاصة

كمواطن سوداني لا أجد حرجاً بأن أطالب بالتطبيع مع إسرائيل فإسرائيل اليوم واقع يجب أن نتعامل معه كما تتعامل معه العديد من الدول “المحترمة” فلو كانت هنالك جدوى من وراء المقاطعة لما تقدمت إسرائيل وتقهقر من عاداها, إن دولاً مثل كندا والسويد والنرويج لم يمنعها تطبيعها مع إسرائيل في مساعدة الفلسطينيين والدفاع عن حقهم بل وإدانة دولة إسرائيل، وفي تقديري أن الإدانة عندما تأتي من دولة تربطها بإسرائيل علاقات دبلوماسية مثل كندا على سبيل المثال حينها تكون أكثر تأثيراً وليس كما أن تأتي الإدانة من دول تصنف نفسها كعدو مثل إيران أو السودان.

إننا نتطلع بأن ينفتح السودان أكثر على العالم وينهي عهد المقاطعة ويقيم علاقات دبلوماسية  متوازنة تقوم على الاستقلالية والمصالح المشتركة وفي تحرر تام من تجاذبات الأيدلوجيا وإملاءات المحاور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى