الواثق كمير يكتب : رِحلتي مع مَنصُور خَالِدْ: فريدُ عَصْرِهِ ونسيجٌ وَحدَهُ!  

 

الحلقة (8)

بيت منصور: دوَّار العُمدة!

شكَّل سَكَني بجوار منصور نقطة تحوُّلاً في علاقتنا الممتدَّة، فكُنتُ ألتقيه كثيراً طالما لم تحجبه

أسفاره المتعدِّدة عني، وكانت سانحة تعرفت عليه خلالها عن قُربٍ أكثر، فتوطَّدت العلاقة بيننا منذ ذلك الحين حتى فارق دُنيانا. فبمرور الأيام، لم يعُد منصور هو المُفكِّر والكاتب والدبلوماسي

ورجُلُ الدولة السِّياسي فحسب، الذي أتعاملُ معه من على مسافة، بل أضحى صديقاً، أُجِلُّهُ

واحترمُهُ، وأخاطبه عفوياً وبتلقائيَّة. كان “بيت” منصور بمثابة “دوَّار العُمدة”، نتردَّدُ عليه كثيراً

ونتحلَّقُ حوله، وفي أحيانٍ نُكسر بروتُوكُولاته فنُداهمه دون علمه، فيُطعمنا ويسقينا. كانت تعمل

معي كمديرٍ بمنزلي فتاة إثيوبيَّة في منتصف العمر، تُدعى أباينش، خلوقة ومتديِّنة وتجيد الطبخ،

مقارنة بالإثيوبيين عموماً. حدَّثتُ منصور عن مزايا وقُدرات أباينش واقترحتُ عليه أن أطلب

منها العمل معك طالما دارك مفتوحة للضيوف من كُلِّ حدبٍ وصوب، فأنت تحتاج لها أكثر مني

لتدبير شئون المنزل، فلم يتردَّد منصور في قُبُول العرض، كما وافقت هي على الانتقال إليه.

أصبحت أباينش مضرب مثلٍ لكُلِّ السُّودانيين والأجانب في الخدمة ومُقابلة حاجة الضيوف، فلم

يتوان منصور في استقدامها للعمل معه في نيروبي بعد أن غادر أديس قبل سُقوط نظام منقستو

في مايو 1991، حيث عَمِلت معه لسنواتٍ، حتى غادر نيروبي إلى القاهرة. لكم حزنتُ على

انقطاع التواصل مع أباينش بعد مغادرة منصور لنيروبي وعودتها هيَّ إلى إثيوبيا، وحزنتُ أكثر

بعد علمي المُتأخر أنها قد توفيت، رحمها الله، في يوليو 2005.

كثيرون ممن لا يعرفون منصور، فيما عدا أنه كان أعزب، بالطبع قد لا يخطُر ببالهم أنه

“ربَّ بيتٍ”، يُديرُ شئون المنزل بحرصٍ ودقة، ويُشرفُ على الصغيرة والكبيرة. كما كان يُعنى

بترتيبات الأثاثات التي يختارها بعناية وذوق خاص، وبوضع مقتنياته الثمينة، كُلٌ في مكانها،

فتسُرَّ الناظرين وتُبهج قُلُوبهم، وسأُفرِدُ حيِّزاً مُقدَّراً من هذه المقالات لـ“بيت منصور”. فمنصور

كان هو من يتولى تحديد الاحتياجات، بمساعدة أباينش، ويذهب بنفسه للتسوُّق، خاصة فيما يلي

اللحوم، حمراء كانت أم بيضاء. صحبتُهُ أكثر من مرَّة إلى الجزَّار الذي يتعامل معه، في حي

“أمباسدور” في وسط مدينة أديس، وكُنتُ أتعجَّبُ لإلمامه الدقيق بخبايا “البهيمة” من الضأن

والعجالي، وصبرُهُ الخُرافي لاختيار ما يريده، وأفضِّل انتظاره في السيارة مع سائقه الشاب تون.

للمُفارقة، قد يكون منصور دقيقاً في مواعيده ومواظبته في حُضُور الاجتماعات، ولكنه لم يكُن

منضبطاً في حالة السَّفر، فعادة ما يصل إلى المطار في وقتٍ مُتأخر يكاد أن يكون كاونتر

الخُطوط الناقلة قد أُغلِق. كانت لي تجربة طريفة معه في مطار نيروبي، في منتصف التسعينات،

 

2

 

حين تصبَّبتُ عرقاً وانقطعت أنفاسي وأنا أركض صوب الكاونتر لأبلغهم بأنَّ منصور قد وصل،

وما كان ليُسافر لولا أنَّ تذكرته في الدرجة الأولى شفعت له.

في أديس أيضاً، في ذلك الوقت تعرَّفتُ على، ونشأت بينا صداقة، على مجموعة مميَّزة

من القيادات الشابة في حزب الأمَّة، من ضمنهم: د. صديق بولاد وأستاذ صلاح جلال وأستاذ

عبدالحفيظ عباس وأستاذ بشير على آدم، والدبلوماسي نجيب الخير (الذي كان قنصل السفارة

ورفض الانصياع لقرار رُجُوعه للخُرطوم). كما قرَّرت القيادة الشرعية أن يكون لها حضور في

أديس أبابا بغرض إحكام التنسيق مع قيادة الحركة الشعبيَّة، فاستأجروا منزلاً كان يقيم فيه

بالتناوُب الفريق أوَّل فتحي أحمد علي والفريق عبدالرحمن سعيد واللواء الهادي بُشرى، والعقيد

السِّر العطا والعميد الرشيد عبدالله. من جهة أخرى، كان هناك أصدقاءٌ آخرون في المدينة، منهم

ياسر عرمان (وكان حينها في إذاعة الحركة)، حسن النور عثمان (مبعوث الجامعة العربيَّة

لمنظمة الوحدة الأفريقيَّة حينئذٍ)، والأستاذ محمد بشير (كبير المترجمين في المنظمة)، والصديق

الشاب إبراهيم إسماعيل (مهندس الطيران في الخُطوط الجويَّة الإثيوبيَّة)، الأجنبي الوحيد، الذي

لم يُقصِّر منصور في مساعدته لتجديد عقد عمله بحُكم علاقاته بالنافذين من الإثيوبيين، المهندس

الصديق الهادي الرَّشيد، الذي قضى بعض الوقت معنا، والأستاذ الأمين زروق (مستشار الطيران

لمفوضيَّة الأمم المتحدة الاقتصاديَّة). كان بيت منصور هو ملاذ وملجأ كل هذه المجموعة،

زُرافاتٍ ووحدانا، ولم نكن لنتذوَّق طعم العيد بدون منصور حادينا وهادينا، وننتظرُ عودته بشوقٍ

حينما يسافر.

فقد كانت هذه المجموعة تتحلَّق بأريحيَّة كاملة حوله أوَّل أيام العيد ليُفاجئنا منصور

بالجلابيَّة، التي كان نادراً ما يرتديها، ويدخل المطبخ بنفسه لإعداد “ملاح النعيميَّة” والعصيدة

“اللقمة” التي كان يجيد صنعها باللبن الزبادي. كنا نجلس معه لساعاتٍ طويلة بعد الإفطار بعد أن

تقوم أباينش بقلي البُن لنستنشق رائحته الزكيَّة، التي ترُد الرُّوح، ثمَّ تقدِّم القهوة “البُنَّه” بِكراً وتِنياً

وبركةً. لم تخلُ تلك اللقاءات الوُديَّة مع منصور، في بيته أو أي مكانٍ آخر يضُمُّنا في المدينة، من تبادُل القفشات والقصص الطريفة معه. بل، كنا نجرُؤ على المزح والدعابة معه ونعامله كراعٍ لنا وصديق، وليس كمنصور العالم والمُفكِّر، دون تجاوُزٍ لمكانته الرفيعة، وكان سعيداً بذلك ويحثنا

دوماً على زيارته. كان المرحوم حسن النور كبير المُشاكسين لمنصور. ففي ذات مساء، قدَّم

حسن دعوة للعشاء بمنزله شَمِلت منصور ودينق ألور وياسر عرمان ومبارك الفاضل وصديق

بولاد. والجلسة على وشك النهاية، وجَّه حسن سؤالاً إلى دينق وياسر: «مش البنضمَّ للحركة لازم

يتدرَّب عسكرياً؟“».. فردَّا عليه بالإيجاب، فواصل: «طيِّب، منصور ده حتدرِّبوه متين؟»..

انفجر الجميع من الضَّحك، وكالعادة استخدم منصور عبارته الشهيرة، التي لا تخرُج عن حُدُود

الزَّجر السَّاخر، موجِّهها إلى حسن: «يا حيوان، إنت أيه دخلك؟». ومن الطرائف مع منصور،

كان هناك أحد ضُبَّاط الجيش الشعبي، من أبناء الدينكا، متوعكاً صحياً، وقد سَمَحَت له قيادته

الميدانيَّة بالسَّفر إلى أديس أبابا لتلقي العلاج. ألحَّ على ياسر عرمان أن يصطحبه معه إلى دكتور

منصور ليتعرَّف به ويطلب منه بعض المُساعدة، وحالما وصلا إلى البيت، قدَّم الضابط التحيَّة

العسكريَّة ممَّا أربك منصور الذي لم يعتد على ذلك. بعد انتهاء الزيارة، ومغادرتهما بيت

منصور، سأل الضَّابط ياسر بعفويَّة: «الزول الكبير بتاعنا ده مُزوِّج كم مَرَه (امرأة)، عندو

نُسوان كتير، مش كده؟». وحين أبلغه ياسر أن منصور لم يتزوَّج أبداً، لم يصدِّقه بحسب ثقافة

الدينكا، بل ازدادت دهشته، ولم يكن مستوعباً أنَّ رجلاً في مكانته ومقتدرٌ وفي مقام “بَنْجْ” غير

 

3

 

متزوج. فحكى لي ياسر الواقعة ولم تُطاوعني نفسي على الاحتفاظ بالقصة أو تجاهُلها، فاتصلتُ

مساء نفس المساء ورويتها لمنصور مازحاً معه. وما أن التقينا بمنصور في اليوم التالي ومعي

ياسر، زَجَرَني بطريقته الساخرة وعبارته المعهودة: «إنت يا حيوان تصحِّيني من النوم عشان

تقول لي كلام فارغ زي ده من حيوان زيك؟!». ضحكنا وانطوى الأمر، وواصلنا الحديث لنخرُج

من بيته كالعادة غانمين.

منصور ومحمد وردي!

بجانب شغف منصور بالغناء والمُوسيقى والطرب والفنون عامَّة، كما سأتطرَّق إلى ذلك

في محطاتٍ مُتعدِّدة، كان له حُبٌ خاص وإعجابٌ استثنائي بالفنان الكبير محمد وردي، يُشاركه د.

جون قرنق في هذا الوله به. فقد كان لوردي حسٌ وطنيٌ وانحيازٌ للعَدْل ومواقف ضدَّ الاستبداد،

سجَّلها له التاريخ، وأضفت نكهة خاصة على أغنياته وزادت أداءه الطروب عُذوبةً. وكما أشرتُ

سابقاً إلى أنَّ وردي كان فاعلاً في اجتماعات التجمُّع الأولى قبل وبعد توقيع الحركة الشعبيَّة على

الميثاق في نهاية مارس 1990. كان ياسر عرمان مُبادراً في الحديث مع د. جون لدعوة محمَّد

وردي، ومن ثمَّ التقى به منصور ودينق وياسر عند حُضُورهم للقاهرة حيث تفاكروا معه حول

إمكانية تلبيته الدعوة لزيارة معسكرات اللاجئين التابعين للحركة على الحُدود الإثيوبيَّة-السُّودانيَّة،

وبالطبع كان ردُّه إيجابياً مُفعماً بالصِّدق والحماس. فحين وصلتُ القاهرة في منتصف مايو

1990، كان وردي يسكُن بجواري في حي حدائق المعادي بالقاهرة، قبل انتقاله للجيزة، حيث

كنا نلتقي بانتظام ومعنا الصديق طه جربوع. شكَّلت دعوته لزيارة المعسكرات الموضوع الأساس

لجلساتنا وما تقتضيه من ترتيبات وما تستدعيه من تواصُلٍ مع منصور وياسر، من جهة، ومكتب

الحركة الشعبيَّة بالقاهرة (ماجوك أميوم)، من جهة أخرى. لعب ياسر ومارتن مانييل (رئيس

مكتب الحركة في أديس) دوراً رئيساً، بدعمٍ من قائد الحركة، بمُشاركة مبارك الفاضل في هذا

الجهد الذي تكلل بالنجاح ووصول وردي وفرقته الموسيقية في النصف الأول من 1990.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى