ياسر عرمان يكتب:أيُّ طَريقٍ سَتَخْتارهُ القُوّات المُسّلحة؟

فِي ودَاع الفريق أول ركن جمال الدين عمر محمد إبراهيم

(1)

حكيت للفريق أول ركن جمال الدين عمر قصة العم وأسير الحرب والشاويش السابق في القوات المسلحة (ود المبارك)، الذي تم أسره في معركة (الجيكو) على الحدود الأثيوبية في 1987، وكان ود المبارك مهمشاً حتى النخاع، وحينما التقيته قبل ثلاثين عاماً لتسجيل إفادة لأهله في إذاعة الجيش الشعبي لتحرير السودان، سألت عم ود المبارك (قول لي إسمك وتاريخ ميلادك) أجابني: ” محسوبك امحمد ود المبارك من أهلك ناس أبو دليق، وسألته مرة أخرى ” ود المبارك ولدوك سنة كم؟ أجابني ” يا زول أنا كان بعرف ولدوني سنة كم كان جابوني الجيكو، وهي إجابة من دفاتر التهميش وسجلاته غير الرسمية. رحل ود المبارك في الأسر ولم يلتق بأسرته مرة أخرى ولازالت ملامحه الممتلئة بالتعب وآثار معارك الجيكو وانحناءات ظهره التي لا تخطئها الأعين، لا تزال ملامح ود المبارك في خاطري تطرح أسئلة أكثر من إجابات، لقد كان ود المبارك رغم التهميش وظلم الحياة مدركاً لماذا انتهى به المقام عند حامية (الجيكو) وللحرب قصص طويلة، ورفيقنا  مالك عقار الذي خبر الحرب كان يقول لي دائماً ” لا شيء جميل في الحرب سوى قصصها”، وهو قول ذو دلالة ومعنى ومع ذلك؛ فإن الحرب هي من ضمن أخطر العوامل التي غيرت تاريخ البشرية .

حديث ود المبارك يحكي عن خلفيته الاجتماعية ويحكي عن التركيبة المعقدة للقوات المسلحة، والانتباه للأخذ بتحليل صارم عند الحديث عنها وهو أمر ليس بجديد على كثير من المدارس السياسية في السودان .

(2)

في معركة النهر الثانية يومي الخميس والجمعة 27 – 28 نوفمبر 1924، والتي طبعت قوات دفاع السودان ولاحقاً القوات المسلحة وعمدت تياراً مهماً بها بطابع الوطنية إلى الأبد يعلو صوته ويخفت ولكنه لا يغيب، في تلك المعركة وفي روايات متواترة حد الحقيقة  فان القائمقام فرج أبو زيد الدينكاوي هو من سلّم الذخيرة الحية إلى قوة الملازم أول الشهيد عبد الفضيل الماظ عيسى، وحكم على فرج أبو زيد الدينكاوي لاحقاً بالسجن وطرد من الخدمة، وفي وقت آخر استولت أسر ذات صيت وشأن وحرمت أسرته من الأراضي التي امتلكها في قلب الخرطوم! ولم يسجل ذلك في بلاغ ضد أحد حتى اليوم، حتى ولو كان بلاغاً ضد مجهول، وقد اتصل بي محامي الأسرة في الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام الشامل وذهبت بهذه القضية إلى النائب الأول آنذاك سلفاكير ميارديت.

محبتي لا تزال قائمة لفرج أبو زيد الدينكاوي حتى تشرق شمس الاتحاد السوداني بين دولتين مستقلتين شمالاً وجنوباً وحتى تعود أراضي فرج بو زيد الدينكاوي لأسرته وحتى نحتفل جميعاً في قاعة الصداقة أو ساحة خضراء بعبيد حاج الأمين وفرج أبو زيد الدينكاوي تحت لافتة كبيرة ” تذكر فرج أبو زيد الدينكاوي وعبيد حاج الأمين نحو مجتمع لا عنصري” فأحلامنا لا تنتهي بانتهاء العزاء، وتذكروا جميعاً لاسيما ضباط القوات المسلحة أن فرج وثابت والماظ وفضل المولى وعبد اللطيف وسليمان محمد ومحمد المهدي الخليفة وعلي البنا وابن دلقو المحس سيد فرح، الذي عاد بعد طول غياب كانوا في هذه القوات المسلحة ووجهوا بنادقهم إلى صدور المستعمرين لا إلى الشعب، وكما لم ينس الإنجليز أن الماظ قد أخذهم على حين غرة بذخيرة فرج أبو زيد الدينكاوي وهم الذين كانوا يكملون رفع تمام الجيش في المسافة الحالية بين القصر الجمهوري ومستشفى العيون. في 27 نوفمبر 1924 وحينما قامو ا بتهديد قوة عبدالفضيل الماظ اعتقدوا أنه لا يملك ذخيرة حية، استشهد الماظ ولاحقاً عوقب فرج أبو زيد الدينكاوي، حيث لم يتمكنوا من إثبات الاتهامات عليه .

إن واجبنا أن لا ننسى فرج أبو زيد الدينكاوي ونحتفي بذخيرته الحية التي لاتزال حية إلى الأبد.

(3)

في يوم الإثنين الماضي الموافق 23 مارس، تأخر الوسيط عن افتتاح الاجتماع، فانخرطت في نقاش طويل مع الفريق أول ركن جمال الدين عمر والفريق خالد عابدين واللواء عصام وآخرين، عن حرب الجنوب وعن حب الجنوبيين للضباط الشجعان من القوات المسلحة وعن إسهام الجنوبيين في بناء القوات المسلحة وتأثير غيابهم واحتقارهم لكل جبان، لأن السودانيين شمالاً وجنوباً معطونون في دماء الشجاعة، تحدثنا عن الراحلين والشهداء من ضباط القوات المسلحة والجيش الشعبي، ونحن كنا في الصف الآخر ولا نزال، ولا نشك في حب الآخرين لهذه البلاد وإن اختلفت بنا سبل وطرق المحبة، تحدثنا عن الرجال الشجعان الذين قابلهم الجيش الشعبي لتحرير السودان، كانت البداية بالحديث عن العقيد عبد الرحمن بلاع  (الحمري ود النهود) (بلاع الرجال) في الجيكو، وعن فرح آدم فرح في بور، وسيف الدولة الأمين في كيالا، وعن هاشم خضر في حامية الناصر ومن الأحياء ذكرت له شجاعة كمال بور والمقدم الشجاع سالم سعيد  محيي الدين الدفعة 24 قائد حامية الجيكو الذي (ظُلم ظلم الحسن والحسين) من قبل نظام الإنقاذ وحرم من حقوقه بعد سنوات طويلة في الأسر بتهم كاذبة ولم ينصف حتى الآن وطلبت منه إنصافه، وسالم سعيد محيي الدين هو من أرسل آخر برقية ” تحرير حامية الجيكو” وما تسميه القوات المسلحة “سقوط حامية الجيكو”  ولكم لغتكم ولنا لغتنا، ويمكن المصالحة بين هذا وذاك حينما يعتدل طقس البلاد السياسي، وقال في برقيته والمعنونة إلى القائد ملكال والخرطوم قائلاً “الخوارج معي في الخنادق الأمامية، نحن انتهينا وجزاكم الله خير الجزاء في خدمة هذا الجيش” ويا لها من برقية ويا له من رجل، وقد التقيت سالم سعيد محيي الدين أكثر من مرة في مدينة شندي في السنوات الأخيرة، وحدثت الناس عن شجاعته في برنامج الواجهة في لقاء مع الأستاذ أحمد البلال الطيب، وقد قاد معارك الجيكو جون قرنق ديمبيور وسلفاكير ميارديت وقد تم فيها بتر ساق الرفيق الدكتور بيتر أدوك نيابا، ثم تحدثنا عن الأخوين أروك طون أروك الدفعة 24 بذكائه وشجاعته، وهو من مؤسسي الحركة الشعبية لتحرير السودان  ومشور طون أروك الدفعة 32 التي تضم الفريق أول شمس الدين كباشي، وقد اغتيل مشور طون بدم بارد من قبل إبراهيم شمس الدين، كان ذلك حديثاً طويلاً مع الراحل وزير الدفاع الذي هو بحق شهيد الواجب والسلام، وتحدثنا حول أن بلادنا تحتاج جيشاً واحداً من صلب كل هذه الجيوش وأن بلادنا يجب أن لا تنهار وهي تواجه أوضاعاً هشة إن لم نحسن التعامل معها يمكن حتى لوباء مثل الكورونا أن يضعها على المحك.

أن للقوات المسلحة خبرة وتاريخاً طويلاً، منذ 1898 وعلى الرغم من الحروب غير المبررة وبفعل السياسات الخاطئة ضد الهامش، فللقوات المسلحة ما تقدمه، وعند حركات الكفاح المسلح تجارب وتنوع، وإحقاقاً للمواطنة بلا تمييز، فأنها جديرة بأن تساهم في بناء الجيش الوطني الواحد، وأن الدعم السريع قوة شابة لها ما تضيفه إلى الوطن وإلى منصة الجيش الواحد، وتحدثنا عن تجارب العراق وليبيا واليمن والصومال وما يحيط ببلادنا من تعقيدات .

(4)

كان الفريق أول ركن جمال الدين عمر حاضر الذهن ومدركاً لأهمية الجيش المهني الواحد بعقيدة عسكرية جديدة وغير مسيّس، يحتفي بكل بناته وأبنائه، ونقلت لوزير الدفاع حوارات عميقة مع الفريق والصديق الدكتور مجاك أقوت، وأننا نرى أهمية  تكوين لجنة مشتركة لكتابة تاريخ الحرب  من الطرفين ولتدوين بطولاتها منذ 1983 إلى 2005 وربما قبلها وتحويلها إلى منفعة للذاكرة المشتركة  في التاريخ والدراسات العسكرية والاحتفاء بشجاعة شعوبنا وتحويل التناقض إلى رابطة وطنية في داخلها خيط من الترابط بين أطراف الصراع وإعطاء درس جديد يشبه السودانيين وحتى لا تكون مرجعيتنا في الألفية الثالثة سلاطين باشا. إن بإمكاننا أن نحول تاريخ الحرب إلى رابطة قائمة على المصالحة والمصالح.

(5)

الفريق أول ركن جمال الدين عمر ابن لحقبتين مهنية القوات المسلحة ووطأة نظام الإنقاذ، تخرج من الكلية الحربية الدفعة 31 وأخذ من الحقبتين، التقيته في نيفاشا حين كان ملحقاً عسكرياً في نيروبي، والتقيته لاحقاً في فترة تطبيق الاتفاقية، كان عضواً شبه دائم في الترتيبات الأمنية، وهو ينحدر من منطقة تعج بأباطرة نظام الإنقاذ، واعتقادي الجازم ولدي شواهد عديدة من مسلكه في طاولة التفاوض ومن الحديث معه في مناسبات عديدة أنه قد حسم توجهه لمصلحة مهنية وقومية القوات المسلحة وأقمتُ معه علاقة قائمة على الاحترام وإزالة المخاوف المتبادلة، وكان إنساناً مهذباً ومدركاً لصعوبة الأوضاع الحالية وتشاركنا في أهمية القطاع الأمني والعسكري وهيكلته وبنائه على أساس من المهنية وعدم التسييس والعقيدة العسكرية الجديدة، واحترام التنوع السوداني، وأن الجيوش المتعددة ستقود السودان نحو الانهيار، وأنه لابد من توحيد السودانيين تجاه الترتيبات الأمنية والعسكرية والاستفادة من الطاقات المتنوعة لبناء جيش وطني يحمي مصالح السودان ويصون أراضيه  ويقوم على المواطنة بلا تمييز والنظام الديمقراطي، ولا يضع سقفاً لكل من له كفاءة في التدرج نحو سلم القيادة غض النظر عن  إثنيته وجغرافية مولده، وإزالة التشوهات العميقة التي لحقت  بالقطاع الأمني والعسكري.

جميعنا ندرك بدون قطاع أمني وعسكري مهني، فإنه لا مستقبل للدولة المدنية ولن تقوم ديمقراطية أو انتخابات أو إصلاح اقتصادي فكل ذلك في كف إصلاح جوهري للقطاع الأمني والعسكري، ولن يستقيم أمر السودان ما لم يستقم أمر القطاع الأمني والعسكري.

(6)

أن أكبر إساءة لحقت بالقوات المسلحة طوال تاريخها حينما قال هاشم ولا نقول الفريق هاشم  رئيس هيئة الأركان السابق في التحقيق معه والذي نشر في وسائط التواصل أن ولائي للتنظيم ولعوض الجاز وكرتي وليس للقوات المسلحة منذ أن كنت ملازماً! فيا لها من إساءة ، فهل يعقل أن يكون هاشم من نفس المؤسسة التي قال عنها الشهيد محمد عثمان حامد كرار والذي كانت أمامه دقيقتان وهو أمام مقصلة إبراهيم شمس الدين “إنني طيلة خدمتي في القوات المسلحة كنت أخشى العدو الجبان لا الشجاع………… وإن القوات المسلحة مؤسسة تحمي ولا تهدد وتصون ولا تبدد”  والفريق أول جمال الدين عمر عاش في القوات المسلحة بين زمانين وعالمين، كان أمامه كأس المهنية والتنظيم وبيعة الوطن وبيعة حسن البنا، ولأنه شرب العسكرية من الكلية من والده الذي ينتمي إلى نفس المؤسسة، ومن قشلاقات الجيش التي تعج بالعسكريين الأشداء منذ أزمنة الجهادية السود في كسلا، فقد اختار في آخر تصريحاته في جوبا وفي مقر التفاوض (المهنية والعسكرية)  فحماية الوطن  فوق كل التنظيمات  لا سيما في هذا الوقت العصيب .

(7)

أتيحت لي فرصة نادرة للحوار مع وزير الدفاع الراحل في عدة مناسبات حول عدة قضايا، أحد الحوارات الهامة قبل ذهابنا إلى النيل الأزرق الأسبوع الماضي، وقد كانت بحضور الفريق أحمد العمدة بادي رئيس هيئة أركان الجيش الشعبي لتحرير السودان، حيث انخرط ثلاثتنا في حوار عميق وشيق حول أوضاع الراهن في السودان،  كان الفريق جمال واضحاً وصريحاً، وفي منطقة أولو حينما اجتمعنا مع الرفيق  القائد مالك عقار وإسماعيل جلاب وأحمد العمدة كان تقييمي له بأنه شخص يمكن الوصول معه لاتفاق ولتفاهم حول قضايا الترتيبات الأمنية وأنه جاد وصريح، وفي أمسية رحيله كدنا أن نصل إلى نهاية الترتيبات الأمنية وتبقت لنا ثلاث قضايا مهمة حينما توقفنا عند مناقشة قضية “آليات السيطرة والقيادة” في ورقة الترتيبات الأمنية، وقد كانت الساعة حوالي التاسعة مساء في فندق بيرميد بجوبا واتفقنا على الذهاب إلى العشاء وأن نبدأ غداً العاشرة صباح الأربعاء 25 مارس، وأكد على ضرورة أن نبدأ في المواعيد فقلت له “إنما تبقى لنا ليس بالكثير لماذا لا تبدأ بالترتيبات الأمنية في محور دارفور عند الصباح” فرد “دعنا نفرغ من ورقتكم ثم نشرع في العمل مع مسار دارفور” فقلت له ” ياخي دايرك تدي ناس مسار دارفور عربون حتى نسير في نفس الاتجاه ثم نجتمع من الساعة الخامسة مساء حتى العاشرة مساء غداً”، وذكر ذلك لاحقاً للأستاذ محمد الحسن التعايشي .

وحينما لاح الصباح كان الفريق أول ركن جمال الدين عمر، على موعد أهم مع ربه وخالقه، وصعدت روحه إلى بارئها في الإستوائية التي عمل فيها طويلاً في جمهورية جنوب السودان، ولأن الموت حق، فقد كان جمال عمر محظوظاً لتقام له طوابير الشرف العسكرية وطوابير الجنازة في دولتين، فالذين التقى بهم في ساحات الوغى بالأمس أقاموا له طابور شرف عسكرياً عنواناً للمحبة وعلائق لا تنقضي  بين بلدين بينهما حدود وحروب وذكرى ودماء وثقافة ومصالح، لقد كانت جنازته في جوبا عنواناً للمصالحة والمصالح.

(8)

إن جمال عمر غير مرضي عنه من نظام الإنقاذ فقد تمت إحالته للمعاش برتبة لواء، وقابل محاسيب النظام رحيله ببرود  شديد، وهذا شيء يحسب له لا عليه ولمهنيته كضابط ووزير دفاع.

قديماً دعا أهلنا الرب والحياة للانتقال من (القوة للهوة) ذلك ما انطبق على جمال عمر فهو يأتي من أرض إذا ضحك أهلها استغفروا الله، فضميرهم يحاسبهم حتى في الإكثار من الضحك ونفوسهم لوامة وهم يأنفون التبذير في كل شيء، لأنهم من إخوان واخوات الملائكة، وهكذا حالنا نحن السودانيين .

في الأيام الأخيرة كان جمال عمر قلقاً على إحدى كريماته التي كانت تجري بعض الفحوصات، قبل رحيله بساعات وفي وسط الزحام كان مهتماً بأسرته، وإلى أسرته التي أحبها وأهله وأصدقائه وزملائه في الجيش والقوات النظامية، وللفريق أول برهان والفريق أول حميدتي صادق العزاء، والدعوات الصادقات أن تخرج بلادنا من وهدتها وأن تطل شامخة من جديد على أحلام النساء والشباب.

 

جوبا – الأحد 29 مارس 2020

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى