أكاذيب رديئة واغتيالات

 

في العام ١٨٨٩م، نشر أوسكار وايلد مقالة تأسيسية أودعها استياءه البالغ مما وصفه بتردي الكذب، موضحاً أن ظن المجتمع بأن الكذب موهبة يولد بها الإنسان أمر ينطوي على جهل بَيِّن بهذا الفن الذي يتطلب دراسة متعمقة وتبتّلاً.

وانتقد وايلد انكباب العوام على كتابة الشعر منادياً ببذل الجهد لتثبيط عزيمة هؤلاء المتشاعرين، ومبيناً في حسم بأن تجرؤ غير العارفين على فن الكذب قد أساء إلى سمعة الكذب نفسه! ولولا أنني على ثقة – وفق التاريخ المدون- بأن السودان كان أوان نشر تلك المقالة يشهد آخر الاستعدادات لتفويج الخليفة عبد الله التعايشي لجيش القائد النجومي لغزو مصر، فإنني كنت سأصدق لو قيل لي إن مقالة وايلد قد كُتبت بوحي من حياتنا في سودان اليوم المعاصر.

قبل ذلك، وقبل خمس سنوات من سقوط الخرطوم في أيدي جيش الإمام الثائر محمد أحمد المهدي، شارك الكاتب والمفكر الأمريكي مارك توين في مسابقة أدبية بمقالة بديعة ومفعمة بالسخرية والحكمة في تمجيد الكذب واصفاً تلك الرذيلة المتفق عليها في الديانات الإبراهيمية والوضعية بأنها فضيلة، ومبدأ، وترفيه، وعزاء، وملجأ في ساعة الضيق، ومصراً على أن الكذب حقيقة قائمة ما بقي الناس، لكنه أعرب عن شكواه من تردي (فن الكذب) كذلك.

إنني أنصح – بثقة وضمير مستريح- جميع ساستنا في طرفي الحكم والمعارضة، ونشطاء ق ح ت، وقادة الأحزاب الطائفية والتقليدية والأيديولوجية وتلك المؤسسة على قوائم دينية وعرقية وعشائرية، والمدعومة من أجهزة مخابرات عربية وأفريقية وأجنبية، وتلك التي تتسول الآن الأموال في أول الطريق، والساسة المستقلين من خلفيات مدنية وعسكرية، والصحافيين ورجال المال والأعمال، والموظفين المتمكنين والمقالين بسبة التمكين في العهد المباد، واللايفبويز واللايف -غيرلز على الفيسبوك بأن يقرأوا مقالتي وايلد وتوين وأن يضيفوا إليها كتاب المفكر الفرنسي الراحل جاك دريدا (تأريخ الكذب) مرات ومرات، وأن يحتفظوا بنسخ من هذه الأدبيات كتمائم في مكاتبهم، وطائراتهم، وسياراتهم، وبيوتهم. إن أكبر إساءة يوجهها هؤلاء للشعب والعالم هي محاولة خداعه بأكاذيب رديئة الصنع لم يبذل فيها جهد ولم يقدم فيها فن.

في ٢٥ مايو ٢٠٠٩م أعلن حزب سياسي سوداني كبير عن مؤامرة لاغتيال أحد قادته الحركيين بقنبلة تعمل عبر التحكم عن بعد كاشفاً عن أن القنبلة انفجرت جزئياً دون أن تسفر عن خسائر، وأنها لو انفجرت بالكامل لدمرت مقر الحزب المبني على أربعة طوابق. تداعت القوى السياسية لإدانة الحادثة دون أن يجرى في الأمر تحقيق لينسدل الستار. أتشرف بأنني تصدّيتُ للأمر في مقال طويل نال رواجاً واسعاً حينئذٍ ونُشر في يومية (الأحداث) التي كان يصدرها الصحافي الأستاذ عادل الباز.

وبعد ١٠ سنوات لم يتعلم الجميع طريقة جديدة للكذب، فعادوا بأكاذيب من ذات الطراز لكن ما رواه الناشط الكذاب عن محاولة سقيه بماء ملوث ضمن سلسلة لا متناهية من محاولات اغتياله، وانتصاره على ذلك الماء المسموم بليمونة طاهرة أكبر من أن يُطاق.

على الشرطة والنيابة العامة أن تأخذ مزاعم محاولات الاغتيال هذه بالجدية اللازمة وأن تحقق فيها بالحرفية المطلوبة وأن تحيل المتهمين بالتورط فيها إلى العدالة، جزاء على إشاعتهم للبلبلة في الفضاء العام، وعقاباً لهم على الكذب الرديء.

وعلى السيد رئيس الوزراء (الناجي هو نفسه من محاولة اغتيال مؤخراً) ووزرائه وأعضاء مجلس السيادة ألا يهرعوا لزيارة الناجي من مذبحة الماء الملوث قبل أن يوجهوا أجهزتهم بالتحقيق وتوفير الحماية لأنفسهم ولمسانديهم ففي الأيام متسع للزيارات، والتقاط الصور المرحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى