الشعب يُريد.. الصور

 

كتبت الأحد الماضي أنّه لو اعتمدت أيِّ حكومة سُودانية منذ الاستقلال على مُؤشِّرات الأداء الاقتصادي للبقاء في السُّلطة لسقطت على الفور في اليوم التالي. وتناولت هتافات المُتظاهرين وشعاراتهم في تظاهراتهم والتي تترفّع على القضايا الحقيقيّة من جُوعٍ وفقرٍ ومَسغبةٍ، وتزعق بمطالب لا تعنيها في الأساس، وإنّما تعني الطبقة المُتخمة التي تقوم بتأليف تلك الهتافات وتضعها في أفواه المُؤدِّين، ثُمّ تتفرّج على صُورهم في مللٍ وهي جالسة على مقاعدها الوثيرة في الصالونات البهيجة.

يُدهش فقراء السودان العالم، وهُم يُطالبون بالديمقراطية والمخابز خالية من الرغيف، ويصرخون تضامُناً مع غزة والقنابل تَضرب أهلهم في جبال النوبة ودارفور، ويُطالبون بمُقاطعة البضائع الدنماركية وحكومتهم عاجزة عن شراء القمح من السفن المُنتظرة على الساحل، وقد بلغنا الآن أنّ الرجال باتوا يتظاهرون في الخرطوم مُطالبين الحكومة بالتوقيع على اتفاقية سيداو لتحرير المرأة من (السيطرة الذكورية)، فيما تموت ذات المرأة على سرير الولادة دُون أن يُطالب بالتحقيق في ذلك متظاهر واحد!

وقد شَهِدَت التظاهرات الأخيرة والتي قادت في النهاية إلى قيام الجيش بإسقاط نظام الإنقاذ القمعي، انضمام العديد من المُشرّدين الضعاف، الذين امتلأت حناجرهم بالهتاف من أجل الحُرية والتّغيير، دُون أن يتكرّم مُؤلِّفو الهتافات أو يتذكّر الهاتفون أنفسهم قضاياهم الحَقيقيّة في البحث عن أحذيةٍ، وكساءٍ، ومساكن، وغذاءٍ!

مَن يضع الأولويات للشعب السوداني؟ وكيف بوسع الجماهير استعادة حقها في طرح قضاياها هي، لا قضايا أصحاب الزبد الذين يُطالبون بشوائها على الدوام؟ هذه أسئلة أخرى نضيفها للسؤال عَمّ الذي يسعد الشعب السوداني أصلاً؟

مُنذ تولِّيه منصب رئيس الوزراء، ظَلّ الدكتور عبد الله حمدوك في سفرٍ مُتّصلٍ للعواصم الخطأ بشكلٍ ثابتٍ وفي المواقيت الخطأ أيضاً. في عجالةٍ زار مصر التي أحسنت وفادته، لكنه عجّل بالمُغادرة أملاً في لقاء الرئيس الفرنسي ماكرون الذي فَاجَأ السُّودانيين بإعادة جدولة الزيارة إلى وقتٍ لاحقٍ تحقق دُون نتائج حتى الآن. ماكرون نفسه في وضعٍ لا يحسد عليه. سافر حمدوك إلى جيبوتي، وأديس أبابا، وجوبا، وكاودا، وأسمرا، وإنجمينا، والرياض فتلقّته بحفاوةٍ، وسافر إلى واشنطن، ونيويورك فتلقّتاه ببرودٍ، وزار باريس، وبرلين فأسعد مُعجبيه بالصور مع ماكرون وميركل.

لكن المُنجز التأريخي الذي شَقّ به مُؤيِّدو/ مُحبو حمدوك بالأحرى، عنان الفيسبوك ومَنَصّات الإعلام الجديد، كان صُوره الضاحكة المُلتقطة بكاميرات الهواتف النّقّالة من لقائه غير الرسمي (Brief encounter) مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، حيث انطلق البعض منهم يُبشِّرون بمرحلةٍ جديدةٍ في الندية مع القطب الأوحد في العالم، يتبادل فيها مسؤولو البلدين القفشات ويقتسمون القهقهات. الحقيقة تقول إنّه لم تُجر مُحادثات رسمية بين الجانبين، وإنّ دبلوماسيتنا فشلت في ترتيب الجلوس مع بومبيو لربع ساعة، كما فشلت معه من قبل حين ذهب إليه في بلاده ومعه وَفدٌ ضَخمٌ.

لا بُدّ أنّ الصور هي التي تسعد بعض جماهيرنا، ولا بُدّ أن البشير ونظامه المُباد لم يدركوا تلك العُقدَة حين كان يَزُور دول الخليج فيتم استقباله بواسطة مسؤولين من رجال الصف الثالث والرابع، ثُمّ يعود وفي زكائبه القمح والوقود والنقود! الشعب لا يُريد ذلك، بل يُريد الصور فقط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى