حياة!!

 

كان على غير عادته..

مكتئباً… مبتئساً… متجهماً؛ صاحب البقالة..

فسألته مداعباً: هل أغضبتك المدام – أم أغضبتها – صباحاً؟..

فتبسم أخيراً – كسابق عهده – ورد وهو يلهو بقلم (المشكلة أن عندي شريحتين)..

ولم أفهم إلا بعد أن شرح لي… وهو يزداد تبسماً..

ولعله كان يضحك – في سره – من بطء فهمي؛ أو جهلي بشفرات أيامنا هذه..

فالشريحة هي الزوجة الواحدة… والشريحتان زوجتان..

فلما تشتغل الشريحتان في شبكة واحدة – يقول – لا يقدر على فهم أيٍّ منهما..

علماً بأن الشريحة الواحدة يحتاج فهمهما قدراً من الوعي..

بمعنى أن تطرق المدامان على موضوع واحد؛ في مصادفة ليست نادرة الحدوث..

ولكن كلاًّ منهما بطريقتها… رغم إن المراد واحد..

فيصبح كلامهما – من ثم – مثل (كلام الطير في الباقير)؛ كما في المثل الشعبي..

وينتظرك كلام الطير نفسه… آخر اليوم..

وذلك إن عدت بغير ما أرادته كلٌّ منهما بحذافيره؛ جراء عدم فهمك منطق الطير.. ومنطق الطير لم يفهمه إلا نبي الله سليمان..

فلا تفقد – والحالة هذه – الرغبة في التكلم…. والتبسم….. والتجمل؛ وحسب.. وإنما حتى في…….. (الحياة)..

وقبل أيام كنت أقرأ دراسة أكاديمية ذات صلة – على نحوٍ ما – بهذه القضية.. قضية قدرة المرأة على كلام – أو منطق – الطير..

والذي يستعصي على الرجال… بما أن عقولهم تختلف عن نظائرها لدى النساء.. فعقل الرجل يميل إلى التجريد؛ وعقل المرأة لتجسيد التجريد..

 

تجسيد حتى الفلسفة – إن استطاعت إلى ذلك سبيلا – لتضحى واقعاً قابلاً للوقوع.. ولذلك خلا تاريخ الفلسفة من فيلسوفة واحدة..

فمثالية هيجل – على سبيل المثال – لا يمكن أن تصير مادة في علم التطريز..

وإلا باتت فلسفة غير ذات روح… ولا (حياة)..

وضحى يوم – وأنا يافع صغير – كنت أجلس تحت شجرة وريفة في فناء بيتنا..

ومن فوقي عشرات العصافير تتكلم بمنطق الطير..

تتكلم كلها في آنٍ واحد… إلى درجة أنني تساءلت: كيف لها أن تفهم بعضها بعضاً..

ثم عج  المكان – والفضاء – أمامي فجأة بمنطق طير بشري..

ما لا يقل عن عشر من نساء الحي أقبلن… وجلسن… وتكلمن في وقت واحد..

ثم طفقن يتكلمن  – جميعهن – دونما انقطاع… من أمامي..

ومن فوقي يفعل الطير الشيء ذاته… وأنا في حيرة طفولية علقت بذهني إلى اليوم.. وفي غمرة هذه الحيرة ظهر صديق طفولتي مبارك..

وأخذ ينادي على أخته – وقد كانت بين الجالسات – حياة….حياة…..يا حياة..

ولكن لا (حياة) لمن تنادي..

وقبل أشهر استضافت قناة (فرنسية 24) سودانيين مقيمين بباريس..

وكان عن الراهن السوداني… بعد الثورة..

والضيوف ثلاثة؛ امرأتان ورجل… وضاع الرجل – رغم فصاحته – بين (الشريحتين)..

وإلى أن انتهى البرنامج ما كان له وجود..

ولا (حياة)!!.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى