انحطاط ١-٢

 

 

 

مُؤكّد بما لا يتيح مجالاً لرأي آخر، إننا لا نعيش عصر نهضة من أي جانب حاولنا قراءة حياتنا في سودان ما بعد الاستعمار. بدأ انحطاط الدولة الوليدة منذ اليوم الأول للاستقلال الذي اختطفته مجموعة السَّودنة الصغيرة، وحصرت فيه الامتيازات على دائرةٍ محدودةٍ من الأقارب والأصدقاء وأولاد الدفعة في كلية غردون وجامعة الخرطوم والكلية الحربية وتغييب الآخرين. كان الانحطاط يمضي وئيداً وبثقةٍ وعزمٍ نحو القاع حتى جاء عصرنا الحالي الذي وسم خروجنا من عصر انحطاط الدولة إلى عصر دولة الانحطاط.

بعبارةٍ أُخرى، فإنّه في السنوات الأخيرة لنظام المعزول البشير وبدايات عصر ما بعد ثورة ديسمبر، صارت النخبة (سياسية وثقافية واقتصادية وإعلامية) هي المسؤولة عن قيادة البلاد إلى العصر الذي يُلائم قاماتها المنحنية.

في سنوات البشير الأخيرة، لعبت السُّلطة دور الراعي الرسمي للانحطاط، وتردى تبعاً لذلك أداء مُؤسّسات الخدمة العامة، وصار التصارُع على المكاسب المالية بين أولاد الدفعة في الحركة الإسلامية هو الناظم لحركتهم في الفضاء العام، وأصبح التباهي بالسُّحت والمال المسروق أمراً مقبولاً لدى المُجتمع المغلوب والمُتواطئ تبعاً لهزيمته تلك مع الغالب في السُّلطة.

وفي عصر الإنقاذ، تم تجريف الحركة الثقافية والفنية والأدبية والإعلامية وحرمانها بشكلٍ مُريبٍ من التقدُّم والازدهار الطبيعي بواسطة مجموعة (مُجرمة) أغلقت المكتبات، وحاربت الطباعة، واحتكرت الورق والأثير، وصناعة النشر، وكَافَحت بشكلٍ مُنظمٍ توزيع الصحف، وبالغت في زيادات الضرائب ورسوم الجمارك على الكتب، ومنعت تداوُل الكتب القديمة، وحَظَرَت استيراد ماكينات الطباعة المَنزلية وآلات تصوير المُستندات والمساحات الضوئية، وأخفت المَلاحق الثقافية من الصُّحف بشكلٍ مُنظمٍ، لتحل محلها صفحات الرياضة ونجوم الغناء ومذيعات التلفزيون، كأنّ ظهور هؤلاء يَستلزم بالضرورة اختفاء الشعراء والأدباء والمُفكِّرين.

لم يحدث هذا أبداً بالصدفة، وحين يحصل أحد شريف على قرص مُدمج أو (فلاش ميموري) لأحد مُخطّطات الحركة الإسلامية، أو مراكز تفكيرها السرية أو تلك العلنية، فسيكتشف الناس أنّ انحطاط الدولة ومُحاولة الانحطاط بالمُجتمع، ونشر المُخدّرات في أوساط الشباب لم يكن أبداً مُصادفةً، وإنما كان عملاً مُتقناً بُذلت له الميزانيات وتداعت له العمائم التي كانت تساوم فينا وهي فينا سوائم وفق أبي الطيب.

لقد صنعت تلك الدوائر الغامضة بُؤسنا السياسي بإتقانٍ مُفرطٍ بالمعنى الذي أشار إليه مرة المُفكِّر الأمريكي فرانسيس فوكوياما الذي أقرّ مرة بأنّ الانحطاط السياسي مرحلة من مراحل التّطوُّر السِّياسي تعجز فيها مُؤسّسات الدولة عن الانفتاح أمام الفئات الاجتماعية الجديدة وحقوقها ممّا يُمهِّد الطريق للعُنف والفوضى. هل تتحقّق الآن تلك القاعدة/ النبوءة في السودان؟

وهل انتهى ذلك المشروع بسُقوط البشير ودُخُوله السّجن؟ لا بل أثبتت حكومة الثورة للجماهير أنّها أشد وفاءً له من صناعة السابقين، وأنها أكثر قُدرةً على الإسراع به بالإبقاء على الترتيبات كافة، التي صنعها رجال الغُرف الخلفية للنظام السابق، وأضافت إليها الالتزام المُطلق بعدم تصحيح أيِّ خطأ سابقٍ من التي ذكرنا وإصدار القرارات الخطأ في كل الشؤون، واستقطاب أكثر العناصر ضُعفاً للعمل الرسمي والوظائف العامّة بحيث يصب ناتج عملهم مُباشرةً في طريق تأسيس دولة الانحطاط المُقبلة!

بعد غدٍ نكشف بعض ملامح الانحطاط في خطابنا العام.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى