الخبير الأمني اللواء (م) بشير علي يكتب للصيحة

 

 

الوجود الأجنبي الشرعي وغير الشرعي وحش كاسر واخطبوط سرطاني

 

هاجس الهواجس الأعظم والأخطر هو الأمن القومي  وليس ارتفاع الدولار واشتعال نيران الأسعار

 

حدود البلاد الواسعة “غير المرسمة جعلت من الخرطوم حاضاً لـ(الجريمة المنظمة)

الخرطوم تنوء وتترنح من أعداد هائلة من الأجانب  الذين”انضموا” “لصفوف” الرغيف والبنزين والغاز المدعوم

 

وظهرت عصابات خطيرة لم يعرفها السودان من قبل تتاجر بالبشر والمخدرات وتزييف العملات

السودان..

 

إذا سأل سائل اليوم.. ما هو أول خطر مهدد للأمن القومي السوداني حاضراً ومستقبلاً؟! فإن الاجابة تأتي على الفور مسرعة ودون تردد ليس من وزير أو خبير أمني وإنما من عامة الناس.. من إنسان الرصيف والشارع العادي غنه الوجود الأجنبي “غير الشرعي” ثم ماذا؟ الوجود الأجنبي غير الشرعي؟ ثم ماذا؟ ملف الوجود الأجنبي “غير الشرعي” ذلك الوحش الكاسر والاخطبوط والسرطان والداء “الصامت” الذي انتشر في السودان بسرعة الضوء!! ليطال ويعم البلاد طولاً وعرضاً متجاوزاً بذلك متعدياً “الخطوط الحمراء”، هذا إذا افترضنا جدلاً أن لدينا بالفعل ثمة خطوط حمراء خلف حدودنا المشتركة الإقليمية التي تمتد وتنداح لآلاف الأميال الوعرة والصحراوية المكشوفة والتي ليست لها “معابر أرضية” للسيطرة والتحكم.. غير تلك التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة!! لتصبح تلك الحدود الممتدة والمتداخلة مع دول الجوار الإفريقي العديدة مشرعة الأبواب والمداخل العشوائية وغير الرسمية التي لا تحصى, لتتدفق من خلالها أمواج الفيضانات البشرية “تسونامي” اللاجئين غير الشرعيين نحو عمق الولايات السودانية وعلى رأسها الخرطوم “حمالة” الأجانب غير الشرعيين فضلاً عن المقيمين والعابرين!! تستقبلهم الخرطوم بالكرم السوداني “الأصيل” الذي يضاهي الكرم “الحاتمي” العربي.. إنها الغفلة.. والعفوية واللا مبالاة التي يتصف وينفرد بها السودان دون سائر بلاد العالم قاطبة!!

لقد كان سودان “المليون ميل مربع” أول دولة أفريقية – جنوب الصحراء – تنال استقلالها الوطني من قبضة الاستعمار البريطاني الحديدية.. في ذلك اليوم التاريخي الأغر: الأول من يناير 1956م مبتدراً ومتصدراً ومؤسساً بذلك أول “منارة” للحرية والانعتاق في موضع القلب من أفريقيا والتي أخذت على الفور تطلق وترسل ومضات أنها هنا نحو بقية الدول الأفريقية التي كانت لا تزال ترزح تحت وطأة الاستعمار الغربي بمختلف أسمائه الإنجليزي, الفرنسي, البلجيكي, البرتغالي الى آخر القائمة الاستعمارية, والتي أخذت – أي الدول الأفريقية – تنال استقلالها الوطني تباعاً بفضل كفاح حركات التحرر الأفريقية المنتفضة ضد الاستعمار..

ومعلوم أن “سودان المليون ميل مربع” كانت له حدود مشتركة مع العديد من الدول الأفريقية والعربية, تحيط به إحاطة السوار بالمعصم, ولكن بتطبيق اتفاقية سلام “نيفاشا” خرجت ثلاث دول من حدوده لتصبح حدود السودان الجنوبية اليوم محصورة فقط مع حدود “الابن العاق” ابن “الانفصال” جنوب السودان!! والذي جعل اسم دولته الجديدة “مشتقاً” من اسم “أبيه”.. وهذا فأل حسن.. ان كان الهدف الاستراتيجي من ذلك هو العودة على المدى البعيد “للوحدة” مع الشمال من جديد.. وليس لحاجة في نفس “يعقوب”.. ويعقوب هنا.. هو الحركة الشعبية لتحرير أكرر “تحرير” السودان قطاع الشمال!!

وعندما أدار الجنوب “ظهره” للشمال بدعوى حق تقرير المصير, واستفتاء الـ (99,9%) غادرت مواكب وجموع الجنوبيين الشمال على عجل, وقد غمرتهم الفرحة والآمال العراض وهم يرددون أهازيج الفرح والنشوة مهرولين نحو “الفردوس” الجديد الموعود في الجنوب! وكان آخر المغادرين هو ذلك السياسي القيادي البارز المعروف بتشدده نحو الشمال.. الذي أخذ يصعد الى الطائرة وهو يردد “خلاص ارتحنا من وسخ الخرطوم”!! فترد عليه الخرطوم قائلة:

أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني

وكم كم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني

*هدايا على طبق من رصاص

وقبل أن تكتمل رحلات العودة النهرية للجنوب.. جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ولا يشتهون!! فقد ماتت الفرحة في “المهد” وسالت الدماء والدموع في أرجاء الجنوب,.. وأطاحت رياح الخلافات القبلية الجنوبية العميقة المتجذرة ورقة “التوت” فتفرق سامر إخوة و”رفاق” الأمس.. ليتمترس كل خلف سلاحه!! ولتبدأ على الفور مواسم العودة “الخجولة” للجنوبيين نحو الشمال!! هرباً من جحيم “الحرب الأهلية” الوليد الشرعي “لاستفتاء” نيفاشا!! وهكذا ومن خلال أمواج “فيضان” اللاجئين الجنوبيين الهادر الذي اقتحم الحدود “غير المرسمة” حتى اليوم بأعداد هائلة ومتواصلة.. أنه ليس “لجوء” وحسب ان الأمر يكاد يكون “رحيل” سكان دولة بكاملها إلى دولة أخرى.. وهكذا تكون “نيفاشا” قد قدمت للسودان “هوية” أخرى بشرية ممثلة في “ملايين” اللاجئين غير الشرعيين, تضاف إلى جملة هداياها السابقة التي قدمها للسودان على طبق “من رصاص” بمناسبة “انفصال” الجنوب والمتمثلة في مشكلة “أبيي” وعدم “ترسيم” الحدود بين البلدين, والبترول الذي جعل من السودان مجرد دولة “معالجة وممر” للتصدير في مقابل حفنة من الدولارات.. وثالثة الأثافي الفرقتان العسكريتان بكامل معداتهما القتالية داخل السودان!! ومع استمرار “طوفان” اللاجئين الجنوبيين الهادر والذي يعتبر بكل المقاييس أضخم “هجرية” جماعية يعرفها السودان منذ أن نال استقلاله ليصبح في موقف لا يحسد عليه!! ولا يدري ما يفعل سوى أن يردد في نفسه “تأباها مملحة تأكلها حافة قروض” بفتح القاف وضم الراء وسكون الضاد”!!

*صيف عربي حارق

وتتواصل قصة الوجود الأجنبي غير المقنن أو غير الشرعي في السودان فهناك “الأوغنديون” الذين بدأ تدفقهم على السودان بأعداد ضخمة في الستينيات أيضاً وترجع اسباب هرب العسكريين والمدنيين منهم إلى الأراضي السودانية – المديرية الإستوائية تحديداً نتيجة للاضطرابات الأثنية العرقية الخطيرة التي اجتاحت يوغندا ولا سيما المناطق الشرقية المتاخمة للحدود السودانية، وذلك عقب الانقلاب العسكري بقيادة رئيس هيئة الأركان اليوغندي الجنرال عيدي أمين ضد حكومة الرئيس المنتخب الدكتور ملتون أبوتي الذي كان يشارك يومئذ في اجتماعات القمة الأفريقية في تنزانيا. وقد نجح انقلاب الجنرال عيدي أمين واستولى على السلطة في يوغندا, لتبدأ على الفور وتندلع نار الاضطرابات العرقية الدامية وهروب موجات ضخمة من العسكريين والمدنيين نحو السودان للمديرية الاستوائية عبر نقطة بوليس “نمولي” الحدودية وغيرها من الأماكن المتاخمة للاستوائية المشرعة الأبواب بين البلدين..

هذا ما كان من أمر اللاجئين الأفريقيين إلى السودان من دول الجوار الأفريقي – جنوب الصحراء – أما عن لاجئي “الربيع العربي” الذي تحول إلى “صيف عربي” حارق تحكمه وتتحكم فيه “البندقية” وليس المظاهرات السلمية, التي افتتحوا واستهلوا بها الربيع الذي “كان” إذ تفرق سامره وهام سماره على وجوههم إلى بلاد المهجر شرقاً وغرباً تاركين بلادهم “تحترق” تحت رحمة المليشيات وأمراء الحروب!! والسودان بالطبع كان من أوائل الدول العربية التي رحبت بصناع الربيع واتباع صيف الربيع!!

*الخرطوم حاضة الجريمة

لقد أصبحت الخرطوم اليوم ومحلياتها العديدة تنوء وتترنح من حمل الأعداد الهائلة من مختلف أصول الأجانب الشرعيين وغير الشرعيين الذين “انضموا” “لصفوف” الرغيف والبنزين والغاز المدعوم , فزادوها طولاً وتعرضاً وضلعاً لدرجة أن “المصطف” منهم يقف أولاً في الصف ثم يسأل أي الصفوف هذا؟! ويحاول عبثاً رؤية “الفرن” أو “الطلمبة” التي يقف في الصف من أجلها ومن أجله!! وكنتيجة حتمية لهذا الكم الهائل من الأجانب مقيمين وعابرين ولاجئين غير شرعيين, أطلت برأسها لأول مرة وظهرت للعيان العصابات الخطيرة التي لم يعرفها السودان من قبل مثل عصابات الإتجار بالبشر, المخدرات, تزييف العملة, تزوير المستندات الثبوتية, بيع الأراضي السكنية, الشقق المفروشة, الدراجات النارية بدون لوحات لخطف “الحقائب” النسائية، وأخيراً عصابات “النقرز” التي تروع وتحكم المناطق الطرفية وشبه الطرفية ليلاً فأصبحت الخرطوم اليوم وبكل أسف حاضنة لكل هذا الكم الهائل من الشر وعصابات “الجريمة المنظمة” المحلية والوافدة مع طوفان اللاجئين بشقيه الشرعي وغير الشرعي!! عبر حدودنا الواسعة “غير المرسمة” والمشرعة الأبواب “العشوائية” لكل من هب ودب من دول الجوار!! لقد باضت وأفرخت ونمت وترعرعت خلال السنوات الماضية لتصبح مهدداً أمنياً خطيراً “للأمن الداخلي والأمن القومي السوداني” على المدى المنظور والبعيد!!

 

كان الاستعمار البريطاني للسودان وفي أوج عهده البغيض قد أصدر قانوناً جائراً أسماه “قانون المناطق المقفولة” منع بموجبه دخول المواطنين الشماليين “الجنوب” منعاً باتاً إلا بتصريح “مكتوب” من وزارة الداخلية وشمل المنع بالإضافة إلى الجنوب مناطق أخرى من السودان!! ونحن اليوم وبعد مضي ثلاثة وستين عاماً من نيل الاستقلال المجيد لم نفرض السيطرة والتحكم على ملف الأجانب ولا سيما “اللاجئين غير الشرعيين” بسبب عدم “ترسيم الحدود” مع العديد من دول الجوار الأجنبي وغياب الآلية التنفيذية الناجعة بشرياً ومادياً للتصدي “لطوفان” اللاجئين غير الشرعيين!! فيا لها من “مفارقة” مبكية مضحكة بين ما فعله “الاستعمار” وما لم نفعل نحن حتى اليوم!! إزاء اللاجئين غير الشرعيين!!

*هاجس الهواجس

إن الجهود التنفيذية المقدرة التي تقوم بها الجهة المعنية “بالأجانب” بصورة عامة وعلى رأسها الإدارة العامة للأجانب “الشرطة” وحرس الحدود “القوات المسلحة” والدعم السريع والمخابرات العامة.. برغم إمكانات هذه الأجهزة المتواضعة للغاية بشرياً ومادياً إذا ما قيست بحجم مشكلة الأجانب واللاجئين والحدود غير المرسمة.. وإزاء كل هذا وذاك لا يسع المرء إلا ان ينظر بعين الرضا لما تقوم به هذه الأجهزة محدودة الإمكانات غير “موحدة الأداء” فالكل يغرد خارج السرب, والكل يغني لليلاه من على خشبة مسرحه الخاص!! ولهم العذر في ذلك, لأنه لا يعد لديهم بسرب “موحد” لا ولا “مسرح” موحد!!

واليوم وما دام الحال هكذا تدفق يومي مهول للاجئين غير الشرعيين من الجنوب ودول الجوار الأفريقي,  والعربي نحو السودان عبر حدودنا الممتدة لآلاف الأميال الوعرة والصحراوية وغير “المسيطر عليها” تماماً وبما أن “هاجس” الأمن القومي السوداني ينبغي أن تكون له الأولوية المطلقة والقصوى قبل هواجس صفوف الرغيف والبنزين والجازولين والغاز وتناحر وتلاسن تقسيم “كيكة” الفترة الانتقالية الدسمة!! فهذه الهواجس الاقتصادية الضاغطة ستكون عابرة وإلى زوال طال الزمن أم قصر بمشيئة الله تعالى.. أما هاجس الهواجس الأعظم والأخطر فهو “الأمن القومي السوداني” وليس “ارتفاع الدولار” واشتعال نيران “الأسعار” في الأسواق!!

وعليه ووفقاً لما جاء في هذا الطرح أي “اللجوء غير الشرعي” في السودان الذي أصبح يتطلب وبالضرورة القصوى أن نتجه نحو آخر العلاج “الكي” لاستئصال هذا الداء القاتل “الصامت” الذي ضرب المركز والولايات الطرفية ومناطق “التماس” الحدودية في مقتل!! فينبغي مواجهة هذا الداء الفتاك اليوم وليس غداً بالقراءة الدقيقة والشاملة وتقدير الموقف تقديراً صحيحاً جاداً وعميقاً لما يجري ويحدث في أرض السودان اليوم عبر البر والبحر, للخروج بالسودان من هذه الأنفاق وليس النفق الواحد وأعظم وأخطر هذه الانفاق هو نفق الوجود الأجنبي غير المقنن أو غير الشرعي فضلاً عن المقيمين والعابرين إلى دول أخرى.. وذلك بميلاد وتأسيس جسم “سيادي استراتيجي أمني إداري تنفيذي شامل” وأعني بذلك “وزارة جديدة” تسمى وزارة شئون الأجانب أو “وزارة الأجانب” سمها ما شئت على أن “توحد” وتضم إليها جميع “ممسكات” الأمن القومي السوداني المعنية بشؤون الأجانب في الشرطة والقوات المسلحة “حرس الحدود” والمخابرات العامة والدعم السريع, وأية جهات “مدنية” أخرى لها علاقة بشئون الأجانب المقيمين واللاجئين وأن يصدر للوزارة الجديدة قانونها الخاص بشئون الأجانب واللوائح المنظمة لأعمالها.. وذلك دون المساس بسلطات وزارة الداخلية والجهات الأمنية الأخرى فيما يتصل بشئون المواطنين السودانيين – حملة الرقم الوطني وأن توفر لها أي الوزارة الجديدة – الإمكانات البشرية والمادية الضخمة لكي تولد “بأسنانها”….

 

لواء شرطة (م) بشير علي محمد بخيت

نائب مدير عام قوات الشرطة (الأسبق)

قائد قوات الاحتياطي المركزي (الأسبق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى