جوبا ـ الخرطوم.. مقاربات اقتصادية وتسويات سياسية

 

ترجمة إنصاف العوض

قطعت صحيفة “الإكينوميست” البريطانية بنجاح العملية السلمية السودانية التي تستضيفها جوبا، فضلاً عن الوصول إلى تسويات مرضية حول الملفات الاقتصادية والسياسية والحدود بين البلدين، وقالت الصحيفة إن سقوط نظام الرئيس الأسبق عمر البشير قدم فرصة فريدة للبلدين من أجل الدفع بالعملية السياسية إلى الأمام وطي صفحة دعم المعارضة على حكومتيهما، وأضافت: لم يكن البلدان أقرب قط إلى تحقيق سلام دائم مع بعضهما البعض، ومع معارضتهما المسلحة أكثر من الآن، حيث يواصلان دعم عمليات السلام المعنية بالجانبين، وأضافت: بالرغم من أنه لم يتم التوصل إلى حل نهائي بشأن الحدود لأبيي إلا أن التفاهمات الأخيرة بين قيادة البلدين جعلت إمكانية الوصول إلى اتفاق نهائي بشأن حدود المنطقة أمراً محسوماً.

ووصفت الصحيفة ملف النفط بزيت تشحيم ماكينة العلاقات الاقتصادية والسياسية، قائلة: بعد سنوات من العلاقات المتوترة، يلعب النفط دور  زيت التشحيم الدبلوماسي لإصلاح العلاقات بين الخرطوم وجوبا، توطئة لحسم ملفات التشاكس السياسي للتفرغ لتعاون اقتصادي ضخم في مجال النفط في وقت تعاني فيه كلا الدولتين مشاكل داخلية وأوضاعاً اقتصادية متردية.

ميراث العنف
وترى الصحيفة أن ملف النفط سيقرب الدولتين الشقيقتين أكثر من أي وقت مضى، بعد أن توفرت الظروف المواتية لذلك، فبعد سنوات من العلاقات المتوترة أصبح النفط زيت التشحيم الدبلوماسي لإصلاح العلاقات بين الخرطوم وجوبا.

وأضافت: طوال السنوات الثماني الماضية منذ استقلال جنوب السودان عن السودان، شوّه ميراث العنف العلاقات بين الدولة الجديدة وجارتها الشمالية. غير أنه وفي الوقت الذي وضعت فيه الاحتجاجات الجماهيرية حداً لحكم الرئيس السوداني عمر البشير الذي دام 30 عامًا في وقت سابق من هذا العام  يواجه البلدان الآن فرصة لإعادة تحديد علاقتهما  وهو الشيء الوحيد الذي يساعد في تدعيم روابطهما هو النفط.
ومع انتهاء اتفاق مدته سبع سنوات في ديسمبر، أعلن وزير البترول في جنوب السودان، دانيال تشوانغ اتفاق البلدين على تجديد اتفاق يوضح تعاون البلدين فيما يتعلق بإنتاج النفط ونقله ومعالجته.

ويحتاج جنوب السودان إلى السودان من أجل استغلال موارده النفطية، ويحتاج السودان إلى الدعم المالي الذي تحققه أرباح النفط. ليبقى السؤال مع انشغال كل دولة بحل مشاكلها السياسية الخاصة، هل ستتمكنان من التركيز على الاتفاقيات الاقتصادية التي من شأنها ترميم اقتصادياتهما المنهارة؟

نفوذ نخبوي
فعندما انفصل جنوب السودان عن السودان في عام 2011 بعد استفتاء صوت فيه حوالي 99 في المائة من الناخبين لصالح الاستقلال، كانت الدولة الناشئة منذ فترة طويلة على علاقة مقطوعة مع الخرطوم ولمدة 22 عامًا بين عامي 1983 و2005، تمزق السودان بسبب الحرب الأهلية بين الحكومة في الخرطوم وجماعة حرب العصابات التابعة للجيش الشعبي لتحرير السودان – في صراع شمل الانقسامات القبلية والإثنية والدينية.
وفي أعقاب استقلاله انفرد جنوب السودان بـ 75 في المائة من موارد السودان النفطية السابقة، والتي كانت ذات يوم تهيمن عليها النخبة السودانية الموحدة. ووفقًا لوكالة معلومات الطاقة الأمريكية، يحتل جنوب السودان المرتبة التاسعة من بين 20 دولة منتجة للنفط في إفريقيا، غير أن شبكة خطوط الأنابيب الوحيدة التي تنقل نفط جنوب السودان إلى خارج البلاد هي خط أنابيب النيل الكبرى في السودان، والذي ينقل النفط الخام إلى مصفاة بورتسودان على البحر الأحمر مما يجبر جنوب السودان على استخدام البنية التحتية السودانية، مع إعطاء النفوذ الأخير على موارد الدولة الوليدة.
ولم تكن العلاقات بين حكومة جوبا وحكومة البشير ودية مطلقاً، وسرعان ما أصبح النفط نقطة خلاف سياسي بين جنوب السودان والسودان في عام 2012، تم إيقاف إنتاج النفط عدة مرات، حيث اتهمت الخرطوم جوبا بدعم المتمردين السودانيين، وهو ما رفضه جنوب السودان.
انتحار اقتصادي
ويقول الدبلوماسي والمحاضر بجامعة جوبا في جنوب السودان جيمس أوكوك للصحيفة: لقد أدى إغلاق إنتاج النفط في جنوب السودان إلى إثارة حرب شاملة مع السودان في عام2012، ولكن في ظل وجود اضطراب مالي خطير بين البلدين،  فإن احتجاز النفط كرهان بسبب نزاع سياسي كان بمثابة انتحار اقتصادي، وفي سبتمبر 2012 ، وقع البلدان سلسلة من اتفاقيات التعاون، بما في ذلك اتفاقية متعلقة بالنفط، وبموجب اتفاقية النفط، وافق جنوب السودان على استئناف الإنتاج في حقوله النفطية، مع نقل النفط بعد ذلك إلى السودان عبر خطوط أنابيب عبر الحدود لتتم معالجته هناك .
وتضمنت الاتفاقية ترتيبات مالية انتقالية يتم دفعها من رسوم النفط التابع لجنوب السودان لتعويض السودان عن خسارة الإيرادات بعد انفصال الجنوب، وفي البداية كان من المفترض أن تستمر ثلاث سنوات ونصف، إلا أنه تم تمديدها  لمدة ثلاث سنوات أخرى في ديسمبر 2016 لتعكس التغيرات في أسعار النفط العالمية وانخفاض الإنتاج.

كره سياسي

ووفقاً لأكوك، فإن النفط  ساهم في إبقاء الخرطوم وجوبا متقاربتين على الرغم من كرههما السياسي المتبادل خلال نظام الرئيس السابق البشير.
وقبل  ما يقرب من عام، بدأ الوضع وكأنه حقيقة سياسية لا تتغير في السودان، إلى أن تصاعدت الاحتجاجات التي اندلعت في ديسمبر 2018 بسبب الظروف المعيشية – بما في ذلك نقص الوقود – تطورت إلى مظاهرات حاشدة دعت إلى إنهاء حكم البشير الذي دام 30 عامًا.

وفي 11 أبريل، تم خلع البشير، وبعد أشهر من التوتر بين الجيش السوداني وجماعات المعارضة المدنية، أنشئ مجلس سيادي انتقالي مشترك في أغسطس، وفتح التحول السياسي في السودان فرصًا لتجديد العلاقات مع جنوب السودان مما دفع الرئيس الجنوب سوداني سلفاكير ميارديت للقول: لقد أدركنا الآن أن الجلوس فقط للتفاوض يمكنه حل المشكلات، وليس براميل الأسلحة.

وأضاف إنني أريد أن يخرج البلدان من هذه الأزمة حتى يتمكنا من التركيز فقط على التنمية لشعب السودان وجنوب السودان.

احترار نفطي
ومنذ ذلك الحين، استضافت جوبا محادثات سلام بين القيادة الجديدة في الخرطوم وجماعات المتمردين السودانيين، مما أدى إلى اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 21 أكتوبر، غير  أن علاقات الاحترار تعني أن موضوع النفط قد أعيد إلى طاولة المفاوضات.
وليس أدل على ذلك من مناقشة رئيس الوزراء السوداني الجديد عبد الله حمدوك خلال زيارته الأولى لجنوب السودان في سبتمبر بعد أن أدى اليمين الدستورية، مع المسؤولين في جوبا، مذكرة تفاهم في المستقبل بشأن التعاون فيما يتعلق برسوم النفط وحرية التنقل بين البلدين، في وقت أعلن فيه مسؤولو النفط فى جوبا تمديد الاتفاقية الثنائية لرسوم النفط دون تقديم المزيد من التفاصيل .
غير أن ذلك لا يعني أن جنوب السودان ليس أمامه تحديات، فهو يتعامل أيضًا مع مشاكله السياسية. ففي سبتمبر، التقى رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت ومنافسه ريك مشار في جوبا لأول مرة منذ عام 2018 – بالرغم من عدم وجود دلائل في الأفق لقرب انتهاء تشكيل الحكومة الانتقالية المتوقع إعلانها في نوفمبر القادم.

تحديات وعراقيل
ووفقًا لمراجعة جنوب السودان لاحتياطيات النفط، كان لدى البلاد حوالي 1.1 مليار برميل من احتياطي النفط المتطور وغير المطوّر اعتبارًا من يناير 2015. ويبلغ الإنتاج الحالي لجنوب السودان 170 ألف برميل يوميًا من كتلتين امتيازيتين للنفط تعرفان باسم مربع 3 و 7 و مربع 1 و 2 و 4

وانخفض سعر خام برنت، الذي تستند إليه جميع مبيعات جنوب السودان، بأكثر من 60 في المائة منذ يونيو 2014، عندما كان يتداول عند 112 دولارًا للبرميل تقريبًا. وصل سعر سوق النفط الخام إلى 47.86 دولار للبرميل في يناير 2015 قبل أن يرتفع إلى ما يتراوح بين 50 و 54 دولارًا في نهاية فترة التقارير المالية الأخيرة. وتعطلت عمليات التنقيب عن النفط وتطويره في جنوب السودان منذ أوائل عام 2014 بسبب استمرار الصراع في البلاد، لا سيما بين الحكومة والمتمردين في المناطق الشمالية الشرقية حيث يوجد عدد من حقول النفط.

تجري محادثات منذ سبتمبر بين الخرطوم وجوبا لإصلاح المنشآت النفطية في بلوك 5 أ في المنطقة المعروفة باسم ولاية الوحدة بالقرب من الحدود مع السودان، والتي تضررت بسبب النزاع.

تطبيع إجباري

ووفقاً لجوبا، فإن التحدي الذي يواجه بلوك 5 أ هو أن جودة النفط الخام القادم من الكتلة لا يعمل مع الخرطوم غير أنها أكدت بأنه قد تم التوصل إلى اتفاق في وقت سابق من هذا الشهر لإنتاج ما يصل إلى 16 ألف برميل يوميًا بحلول الخامس من ديسمبر القادم.

وبالنسبة إلى أبراهام أوليتش​​، كبير محللي السياسات في معهد سود، فإن التقارب الأخير في الأشهر القليلة الماضية هو “السبيل للتطبيع حيث ينبغي على البلدين التخلي عن السياسات السابقة في محاولة لإسقاط بعضهما البعض.
وقال: “بعد الثورة في السودان، يأخذ النظام الجديد المبادرة ويريد الحفاظ على تلك العلاقة، يجب أن يمنح السودان جنوب السودان درجة معينة من المرونة حتى يتمكنا من الاستفادة من العلاقة، وينبغي أن يكون جنوب السودان مرنًا وأن يمنح السودان ما يكفي لإثبات أن هذه العلاقة مفيدة للطرفين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى