في البضاعة الكاسدة..!

“التغيير السياسي في هذا البلد سوف يبقى سلسلة انتقالات من سَواعد الطُغاة إلى أكف المُستبدِّين، إن لم تتغيّر أنت.. تغييرك لا يعني أن تهدم جبلاً أو تحفر بئراً.. فقط جرِّب أن تفرد مساحة مُقدّرة لكلمة لا في رقعة ردود أفعالك”.. الكاتبة..!

رجل شرطة إسرائيلي كَان يقف كل يوم أمام حاجز أقامه الجيش الإسرائيلي في شوارع القدس لتفتيش الفلسطينيين، وبعد تفحُّص أوراق العابرين، كان ذلك الشرطي يُصوِّب نحو الواحد منهم مدفعه الرشاش ثم يلقي عليه بفوطة، ويأمره بتلميع حذائه، وقد كانوا يفعلون..! 

إلى أن جاء يوم مَرّ على ذلك الحاجز شابٌ فلسطينيٌّ رفض أن ينحني لتلميع الحذاء وحينما هدّده الجندي بالقتل صاح في وجهه “اقتلني مائة مرة، لكنني لن ألمع حذاءك”، فما كان من الجندي إلا أن تراجع فوراً عن طلبه، وتظاهر بأنه يتلقّى مُكالمة على هاتفه المحمول، ثم أشار للشاب أن يعبر الحاجز..!

إذا حاولنا أن “نؤنسن” الفكرة، بعيداً عن جنسية الشرطي أو الشاب العابر، سنخلص إلى قاعدة ذهبية مفادها أنّ العابرين من حاجز الكرامة هُم الذين يُحَدِّدُون سلوك المُعتدين بخُضُوعهم أو رفضهم لشيوع طبائع الاستبداد فيهم..!

أقوى أسباب اندلاع الثورة المصرية كان طُغيان منسوبي جهاز الأمن واستبداد منسوبي أجهزة الشرطة من العساكر والأمناء والمُخبرين، وتراكُم مُعدّلات الإذعان في مواقف المُواطنين، ولو تَأمّلتَ في سير المُتجاوزين في تلك الأجهزة ستجد أنّ العلاقة بين حجم الرتبة ومقدار كانت العُنف عكسية..!

عندما نشرت – قبل فترةٍ – مقالين صريحين عن صور الظلم والتجاوُزات التي يضعها القانون صراحةً في خانة الجرائم، ورغم ذلك يتعرّض لها المحكومون في بعض السجون السودانية، قال لي مسؤولٌ رفيعٌ في الشرطة السودانية – قال بالضبط !- إنّه يقر بوجود تلك الحوادث والتجاوُزات لكنها تصدر عَادَةً عن العساكر وليس الضباط..!

وعندما تمت مضاعفة جبايات المرور قبل سنوات، اتفقنا مع السيد مدير شرطة المُرُور على استضافته في حلقة تلفزيونية تتناول تلك الزيادات وتناقش علاقة شرطة المُرور بالسائقين، لكنه غاب عن الحلقة التي كانت على الهواء مُبَاشرةً، ثم خرج يجيب على أسئلتها في نشرة الأخبار الرئيسية وهو يُؤكِّد أنّ التجاوُزات فردية..! 

وغيابه – في تقديري – كان لأنّه لا يملك مُعظم الإجابات المرضية على كل الأسئلة الغاضبة عن تداعيات وإشكالات السلطة التقديرية الواسعة الممنوحة لشرطي المرور في الطريق العام..!

أما جهاز الأمن فقد ظلّت علاقته بالإعلام محصورة في تنفيذ مشيئته وتحقيق إرادته، بين منع النشر ومُحاكمة الصحفي أو اعتقاله إذا لزم الأمر.. وعلاقة منسوبيه بالمواطن السوداني ظلّت محفوفة بأخطار الوقوف على حاجز الحرية، والخوف من إراقة الدماء أو إراقة الكرامة..!

ذات الصحف التي كانت تحمل إلينا التصريحات الواثقة لرجالات الإنقاذ عن كساد بضاعة الحالمين بزوالها، ظلّت تنقل أيضاً أخباراً ومُتابعات لمُحاكمات في جرائم نظاميين ورجال شرطة اُرتكبت بحق مُواطنين في عهد الإنقاذ والإذعان..!

ارتفاع مُعَدّلات هذا النوع من الجرائم هو الذي عَجّلَ باندلاع الثورة السودانية التي أَكّدَت – من جديد – على أنّ شُيُوع الاستبداد وتَفَاقُم الإذعان هو الوجه الآخر للرفض والانعتاق والثورة..!

منى أبو زيد

[email protected]

    

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى