حكومةٌ عالقة في الوحل !..

لم نسمع لا في الأولين ولا الآخرين، لمثل هذا التأرجح والحيرة والفشل الذريع من جانب الحكومة الانتقالية في مسألة الموازنة للعام ٢٠٢٠م، وقد تبقّت فقط أيام قلائل من العام ٢٠١٩، والأدهى والأمر، والمثير للسخرية أن الحكومة ومن ورائها الحرية والتغيير وبعدم الاتفاق على مسودة الموازنة المقدمة من وزير المالية، تداولت فكرة موازنة مدتها ثلاثة أشهر، وهي سابقة لم تحدُث من قبل، وكان الأصوَب أن تُجاز الموازنة وتُعدّل في أي وقت شاءته الحكومة، بدلاً من إظهار نفسها في هذا الموقف البائس وتبدو فيه مشلولة الحركة والتفكير .

كل هذه التداعيات الناتجة عن العجز الحكومي في إعداد وإجازة الموازنة، هو عرَض لمرضٍ عُضال تُعاني منه حكومة السيد حمدوك، وهو دليل فشل مُبكّر وانكشاف مريع أمام الرأي العام، وأمام العالم أنها حكومة خاوية الوفاض من الأفكار البنّاءة في عِلم البدائل، وهو الاقتصاد مثلما هي فاشلة سياسياً وخارجياً، فالمرض هو قلة الخبرة والكفاءة وغياب الحياد والاستقلالية في القرار، فقد كانت الفكرة من البداية أن يأتي السيد حمدوك بحكومة كفاءات مستقلة لا علاقة لها بالسياسة، حكومة تضع اللبنات لبناء مؤسسات حكم سليمة ومعافاة من الاستقطاب والاستخدام السياسي، تعمل بمهنية عالية وتحوذ على خبرة واسعة تُمكن من التخطيط السليم والإحاطة بمشكلات البلاد حتى يتم وضع الترياق المناسب لكل ما يعاني منه وطننا من أزمات ومشكلات استعصت على الحل .

لكن، بما أن الحكومة تكوّنت من كوادر حزبية مُسيّسة وناشطين قادمين من الخارج بلا خبرة، وقعت البلاد في الوحل وتحت أقدامها الرمال المتحركة، وليت الأحزاب جاءت بكوادرها وكفاءاتها، فالوزراء الحاليون للأسف جُلّهم من الصف العاشر تقريباً في أحزابهم، ومشكوك في كفاءتهم وخبراتهم التي تؤهلهم لانتشال بلاد تعاني من أزمات مركبة أقعدت كل القطاعات الحيوية في البلاد، ولم تستطع الحكومة حتي إنتاج مجرد أفكار وبرامج تحمل حلولاً ممكنة، وذلك باعتراف رئيس الوزراء نفسه من قبل واعتراف قيادات في الحكومة والحرية والتغيير، ومدى ما أنجزته الحكومة في كل الفترة التي قضتها هي هذا الاضطراب والتراجع المذهل في الاقتصاد والحصاد الصِّفري في توفير موارد حقيقية للموازنة واستجلاب أي دعم خارجي، ثم تحاشي الاستثمارات الأجنبية لبلادنا لما تعرَّض له بعض المستثمرين من تضييق ونكران جميل، وحتى الدول التي كانت تستثمر في بلادنا مثل الصين واضح أن هناك فتوراً في العلاقة معها بدليل إلغاء الإدارة المختصة والخاصة بشأن الصين بوزارة الخارجية وشبه تجميد للزيارات المُتبادلة وضمور العمل والتعاون في مجالات الاستثمار، ونخشى أن تكون الحكومة الانتقالية قد دخلت في صفقة مع واشنطون في زيارة رئيس الوزراء الأخيرة للولايات المتحدة تقضي بإخراج الصين كشريك اقتصادي وحليف دولي من السودان نظير تطبيع العلاقات مع بلاد العم سام، وعودة الشركات النفطية الأمريكية مثل شيفرون مرة أخرى .

حتى على الصعيد العربي والأفريقي لم تبدِ الحكومة نشاطاً ينبئ بنتائج قد تنعكس على وضعنا الداخلي، فالعلاقة مع الخليج العربي تبدو مُتثاقلة الخطى من الجانبين، ولا يظهر الحماس كما كان في بادئ الأمر، ولا نرى دعماً يُؤبَه له يُقدّم لحكومتنا السنية بل يكاد يتوقف، بينما علاقتنا مع الجوار تعاني أيضاً من نفس البرود، فالعلاقة مع مصر انخفضت فيها سرعة الإيقاع ويكتنفها شيء من البرود، وكذلك الجارة إثيوبيا ليست كما كانت في الأشهر السابقة، في حين العلاقة مع إريتريا وجنوب السودان تدثرت بالطابع الأمني وإذابة العوالق السابقة ويغلب عليها روح التعاون في ملفات سياسية وأمنية لم تنفتح لأي تعاون ذي بُعد اقتصادي حتى ولو كان مكافحة تهريب السلع من السودان إلى هذه البلدان .

إذا كانت الحكومة عاجزة بهذا المستوى، أخفقت في إعداد موازنة تنعش الآمال بتحسّن الأداء الاقتصادي، فليس المطلوب مشروع موازنة يتوقع منه حل كل المعضلات الاقتصادية، فقط المطلوب هو إعطاء الإشارات الجيدة بأن البلاد يمكن أن تضع أقدامها على الطريق الصحيح، وهذا ما فشلت فيه الحكومة بامتياز، بجانب ذلك تذكرنا الحكومة نفسها بأقوال من ألسنة الوزراء أو من أفواه عرّابيها في قوى إعلان الحرية أن السياسة الخارجية مُنهكة وضعيفة ولا توجد حتى رؤية لإدارة وتفعيل العلاقات مع العالم الخارجي، للأسف السفارات في الخارج مُعطّلة عن العمل، الدبلوماسيون والسفراء جمّدت مبادراتهم وأنشطتهم وسيوف التهديد مسلطة على رقابهم، والعالم ينظر ويراقب كل ذلك، ويستغرب لحكومة تنهش في لحم خدمتها المدنية وتعطل سفاراتها بنفسها، وتفقد كوادرها المدربة والمؤهلة، ولا تستطيع حتى الإحلال والإبدال الذي وعدت به، لأن الرؤية غائبة والتفكير الجاد والاستئناس بما هو موجود مغيب! …

خلاصة القول، إن الحكومة في وضع حرج للغاية لا يؤهلها لتتقدم خطوة للأمام، الا بإجراء مراجعة شاملة وسريعة للأداء وللوزراء والدفع بكفاءات حقيقية وأهل خبرات ليست السياسة أحد معايير اختيارهم، ثم وضع برنامج عملي مُحدّد تُسخّر له الطاقات والإمكانات، وإيقاف العبث السياسي الحالي ووقف النحر المتعمد للخدمة المدنية وقوانينها ولوائحها ونظامها، والبحث عن ما يزيل الاحتقان السياسي، وقد طرح رئيس الوزراء في خطابه يوم الأربعاء نقطة جيدة نرجو أن تكون صادقة بعزمه على إطلاق مشروع وطني يشترك فيه الجميع … لو أبعدتَ السياسة يا حمدوك وركّزتَ على القضايا الملحة وهموم المواطن وشواغله الحقيقية قد تجد نفسك في الاتجاه السليم …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى