خربشات الجمعة

(1)

تناثرت خيام الحُزن وتهاطلت دموع الباكيات على مأساة وقعت الأسبوع الماضي بمنطقة كازقيل جنوب الأبيض بالقرب من قرية عردابة راح ضحيتها (24) شخصاً وجرح (11) آخرين في حادثة اصطدام بص قادم من مدينة الأبيض في طريقه إلى كادُقلي وحافلة ركاب قادمة من الدبيبات جنوب كردفان في طريقها إلى الأبيض.. خيام حزن المأساة امتدّت من حي السلام جنوب مطار الأبيض وهذا الحي يمثل ثمرة مُرة للنزاع في جبال النوبة.. وجل سكانه من المقهورين وضحايا النزاع بعد أن فقدوا الابن والأب.. واستحالة الحياة في قُراهم بأبو سفيفة والدندور وعقب وبجعاية ووادي أم سردبة والفنقلو والريكة والحمرة.. فضربوا في أرض الله الواسعة نُزُوحاً حيث مظان الأمن والأمان.. فاحتضنتهم الأبيض عاصمة الإقليم.. واقتطعت أمارة البديرية من ثوبها الذي ما ضَاقَ يوماً بأهل كردفان وأنزلتهم حكومة شمال كردفان جنوب المدينة الذي يمثل جبال النوبة الاجتماعية في حي السلام، كان عدد ضحايا حادثة اصطدام البص السفري والحافلة ثلاثة شهداء.. أما في مدينة الدبيبات عاصمة محلية القوز فإنها تئن منذ الأربعاء الماضي تحت سرير الحُزن وقد انكفأت البيوت على نفسها.. وجَفّت الدموع.. والمرأة تُواسي الرجل.. والصغير يبكي بحُرقةٍ على الكبير.. في الحي الغربي كان عزاء الراحل حسن أحمد الطالب الذي جَمع الناس من الضعين والمجلد وكادُقلي والخرطوم.. جاء العمدة صالح نينات عمدة أبو مَطارق بشرق دارفور.. وجاء الأستاذ إبراهيم محمد ضحوي من قلب أمّارة المسيرية الفيارين.. وجاءت رموز الحوازمة وقادتها لوداع فتى في خُلُقه وقيمه صَحابياً في زمانٍ ما عاد فيه حتى من قيم وسُلُوك الصحابة إلا مَا شَذّ عن الواقع البائس.. في الدبيبات “أولاد يونس جنوب” كانت المأساة أنّ ثمانية جثامين دخلت قرية لا يتعدّى عدد بيوتها الخمسين منزلاً.

لم تجزع النساء.. ولم يبكِ الرجال بدموعهم، كانوا يبكون بقلوبهم.. وقد خرجت القرية بأجمعها تهتف (لا إله إلا الله) (الله أكبر) (الموت حق) (ان بعد العسر يسرا) أثبت أهلنا البرنو أنهم أهل شكيمة وصبر واحتساب.

(2)

حادثة منطقة عردابة وعدد الضحايا الذين سقطوا يسأل عنهم يوم الحساب من تقع على عاتقه مسؤولية إصلاح الطريق وردم الحُفر التي خلّفها الخريف.. وطريق “الأبيض – كازقيل” تم تشييده عام 1984م بواسطة شركة أدكو ومنذ ذلك الزمان البعيد، حَافَظَ الطريق على جودته لالتزام الشركة بالمُواصفات، بينما تهدّم الطريق الذي شَيّدته شركة سيكو الصينية عام 2005م وبات السير فيه صَعباً أو أقرب للمُستحيل.

في قرية مناقو التي تشهد تعايُشاً وتمازُجاً بين أهلها من البرقو ودار شلنقو الذين كانوا رَحّالة يَجُوبُون الأرض بأبقارهم في رحلة الشتاء والصيف لكنهم استقروا في القُرى المُتناثرة من الدلنج شمالاً حتى الحَمادي، ويعتبر دار شلنقو من أكبر مجموعات البقارة في كردفان وعاصمتهم التاريخية السنجكاية ومقر محكمة العُمدة مالك دارس في الحاجز وهي أكبر محكمة أهلية في جنوب كردفان الآن!!

لم تجف دُمُوع أهل مناقو بعد لفاجعة رحيل “أولاد مكين” الثلاثة في الحادث المشؤوم.. وفي النوائب تتكشّف مَعادن المُجتمعات في ترابُطها وتآزرها وكانت أيّام العزاء في مناقو اختباراً حقيقياً لآل مكين.. بثقلهم الاجتماعي وتمدُّد علاقاتهم الاجتماعية من كادُقلي حتى أعماق الجبال، ومن ديار المسيرية إلى ديار البديرية تَدَفّقت سُيُول المُعزين في الراحلين من كل القُرى والفرقان.

رجل الأعمال والمُزارع الكبير أحمد عبد القادر عبد الرحمن، مَالك السيارة الحافلة التي أزهقت في الحادثة الأرواح، هرع أحمد عبد القادر الشهير بـ”حبيبي” إلى مُواساة أهله وعشيرته، وكان مسكوناً بالحُزن والألم على الذين رحلوا عن الدنيا.. طاف أحمد عبد القادر عبد الرحمن وعشيرته المفجوعين في موت الفتى حسن أحمد الطالب، خيام العزاء من الأبيض حتى الدبكر، حيث فقد الدكتور عمر سليمان آدم ابنة شقيقته في الحادثة.. وعمر سليمان من السياسيين الأكثر ارتباطاً بأهله وعشيرته.

(3) 

في الفواجع والمآسي تتبدّى خصال التآزر ومواساة الجريح والتخفيف عن المصاب.. لكن رحيل حسن أحمد الطالب ترك في النفوس جروحاً غائرة لشهامته وحُسن خُلُقه وطيب معشره.. كان فتىً سمحاً في خُلُقه وسمحاً في سمته.. وسمحاً في حلمه وعفوه وابتسامته.. وتواضعه وكدحه في سبيل أسرته.. هاجر إلى المملكة العربية السعودية لسنوات.. وعاد في إجازته السنوية وحملته الأقدار إلى مقابر أبو صيفة في الأبيض قبل أن تزفه الدبيبات عريساً لإحدى حسناواتها.. مات حسن أحمد الطالب وبحثت في دفاتر الأوراق عن كلمات نبعثها إليه رغم أن حسن الآن لا يُمكن الوصول إليه، وعثرت على بعض سطور للصديق صلاح حاج سعيد أرسلها إلى حبيب عمره في مستقره الأبدي وما صديق عمره إلا مصطفى سيد أحمد.

كل المطارات والموانئ

وشُفّع البلد الفتارى له بارين القطارى

يسألوا الناس عن خبر زولاً

مُسطّر اسمو في قلوب العذارى 

وفي عيون كل المساكين الحيارى

زول بيطلع من نفس طورية

ضامة الطين تكابد طول نهارها

زول بيسكن في عيون أطفال

تأمل ديمة يديها البُشارة

“يا حسن” والله الفرقة حارة

وفقدك أكبر من مُحيط الدنيا

وأكوانها ومدارها..

رحل حسن أحمد الطالب ورحلت أنفس عديدة في حادث هو الأبشع في العام الجاري.. وفي كل عام يموت الناس سمبلا.. في حوادث السير التي حصدت أعز أبناء هذا الوطن.

وكل جمعة والجميع بخير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى