أسفار وترحال

يوسف عبد المنان 

* خرجت  من الخرطوم، وقد غسلت  أمطار  الساعات الأولى من فجر  الخميس  جدران  البيوت  الاسمنتية،  وأضافت  لشوارع  المدينة  المتسخة  أسباباً  أخرى  لتوالد  البعوض  والناموس.  

غرقت  شوارع  الخرطوم  في الماء  وحتى مدخل مطار  الخرطوم  المسمى  دولياً  بدا  كبركة  ماء  تحول  بين  المغادرين الصالات  قبل  أن تبتل قدماك  وحقائبك.  

اكتشفت  أن صالة  الجوازات  لمنح  التاشيرة  قد  تم لفظها  بعيداً  عن الصالات  في ذلك  الفجر،  والساعة  تشير  إلى الخامسة صباحاً، بحثت  عن نافذة  شرطة  الجوازات  بين  مكاتب  عديدة  تقع  غرب  صالة  المغادرة،  تبرع  أحدهم  هل  تريد  مكاتب  الخدمة  الوطنية، ابتسمت  فنظر  لرأسي،  وقال  يا حاج  عاوز  مكاتب  التأشيرة،  في نفسي  تمنيت  لو عادت  بي السنين  وأصبحت  من المطلوبين  لأداء  الخدمة  الوطنية على الأقل  لبدّلتُ  كثيراً  من الخيارات  التي  سرتُ  عليها  .

لم تستغرق  التأشيرة  زمناً  طويلاً  بعد  الفحص  الأمني  ومراجعة  كشوفات  المحظورين  من السفر، وهي كشوفات  متغيرة  ومتبدلة  بتبدل  الزمان،  وكما  قال  الإمام  الشافعي  من سره  زمن  ساءته  أزمان.  

وزير  داخلية  أمس بات  محظوراً  اليوم،  ووزير  اليوم  ينتظره  مصير  مجهول.  

النداء  الداخلي  يطلب  من الركاب  المسافرين  على شركة  تاركو  جوبا  عنتبي  التوجه  إلى الصالة  رقم  ٤ لتكملة  إجراءات  المغادرة، وجوه  السودانيين  عليها  مسحة  حزن  دفينة  كأنهم  المعنيون  بالوجوه  التي  ترهقها  قترة  !!

خمس  ساعات  ونحن  في انتظار  إقلاع  طائرة  تاركو  وما أدراك  ما تاركو  التي  هي ثمرة  لعرق  شباب  من أبناء  السودانن ولكنها  الآن  بدات  تشيخ  وهي  في عز  الشباب.  

           جوبا  ما لها  علينا؟؟

ـ هبطت  الطائرة  بالمطار  بعد  تجاوزها  بصعوبة  لسحب  الخريف  التي  تغطي  سماء  الجنوب  والشمال  معاً،  لم تستغرق  إجراءات  الدخول  إلا  بضع  دقائق،  وجدتُ  نفسي  أمام  مدينة  لا أعرفها  عمرانياً  وأحبها  تاريخاً  وإنساناً  وماءً  وشوارع،  يطل  جبل  لادو   وشوارع  جوبا  تبدلت  العمارات  السامقة  والفنادق  والأسواق  التي  تستورد  حتى الطماطم  والبطيخ  من كمبالا  بعد  أن فقدت  منتجات  الشمال  وأُرغم  الجنوب  على التوجّه  جنوباً ليتنفّس  الحياة  .

دخلت  قصر  الرئاسة  في  جوبا  الذي  يحيط  به  جنود  أكثر  تهذيباً  واحتراماً  للناس  من  جنودنا  وحراس  المسؤولين  هنا  وكانت  المباحثات  بين  وفد  الحكومة  برئاسة  الدكتور عبد الله حمدوك  ورئيس  دولة  الجنوب  سلفاكير  ميارديت  قد تطاولت  واقتربت  من الساعتين،  بعض  الصحافيين  استلقوا  من شدة  الرهق  والتعب  على الكراسي  الوثيرة  ينتظرون  صرير الأبواب  ونهاية الاجتماعات،  وقد  فتحت  الكاميرات  عيونها وأجهزة  التسجيل  أذنيها  لسماع  إفادات  من الدكتور  عبد الله حمدوك  والرئيس  سلفاكير،  ولكن  خرجت  وزيرتا  الخارجية  في  الجنوب  والشمال  امراتان  في منصبين  كبيرين  وبتفاصيل  مختلفة  وأزياء  متباينة  وتعيين  في وقت متقارب  وزيرة  خارجية  الجنوب  أوت  دينق القادمة  من منطقة  يرول  أقرب  امرأة  في حكومة  الجنوب  للقائد  سلفاكير  الذي  لا ينسي  وفاء  زوجها  الراحل  للحركة  الشعبية  ولقضية  الجنوب،  لذلك  وضعها  قبل  شهر  واحد  في منصب  وزير  خارجية  بديلا  للوزير  السابق   نيال  دينق  ،الوزيرة  دينق  ذات  الأربعين  ربيعاً  امرأة  أبنوسية  فارعة  الطول  بهية  الطلعة  متواضعة  رغم نفوذها  الكبير  في الحكومة  والقصر،  تتشابه  الوزيرتان  في العلاقة  الوثيقة  بقادة  الدولتين.

  في الضفة  الأخرى  تعتبر  أسماء محمد عبد الله  وزيرة  الخارجية  من اختيار رئيس الوزراء عبد الله حمدوك  الذي  اختارها  بمواصفات  يراها  في الوزيرة  أسماء  لا تتوفر  لغيرها  واعتبرها  خيار  الوقت  الراهن ..وقفت  أسماء  محمد عبد الله  وهي  امرأة  ستينية  أمام  الصحافيين  وقرأت  تصريحات  اتفق عليها  في  الغرف  المغلقة  بين   البلدين،  ولم تخرج  التصريحات  من تأكيد  ما هو  مؤكد،  ولكن  الوزيرة  وجدت  عسراً  ومشقة  في قراءة  الورقة  التي كُتبت  واتفق  عليها  .

  تفاصيل  مثيرة  عن ملف  حكومة  الجنوب  

*في رحلته  إلى جوبا  كان  الدكتور  رياك  مشار  واحداً  من أهم  الشخصيات  التي  رافقت  الفريق  أول  محمد حمدان دقلو  عضو  المجلس  السيادي  إلى جوبا، وبدا  للمراقب  السياسي  أن الفريق  أول محمد حمدان دقلو في جدول  يومياته وأولوياته  الملف  الجنوبي،  وتنفيذ اتفاق  السلام  المتعثر  بين  سلفاكير  ورياك  مشار،  وأغلب  الإعلام  السوداني  شغلته  قضايا  الداخل  عن النظر  لما يجري  في  الجنوب  رغم  أهميته  وتأثيره  على الأوضاع،  وإذا  كانت  الحكومة  السابقة  قد  أفلحت  في التسوية  بين  سلفاكير  ورياك  مشار،  فإن  الحكومة  الانتقالية  مطالبة  بالمضي  قُدماً  في لعب  دور  الوسيط  والراعي  لتلك  المفاوضات،  ولن  تجد  من هو  أهل  للمهمة  غير حميدتي  والفريق  جمال  عمر  وزيرًا للدفاع  .

وخلال  المفاوضات  التي  جرت  بين  حميدتي  وسلفاكير  ورياك مشار، تم تجاوز  بعض  النقاط  الخلافية  مثل  المشاركة  السياسية  في  الحكومة  المنصوص  عليها  في الاتفاقية،  وبدأت  أمس  خطوات  عملية  في تنفيذ  بنود  الاتفاق  الأمني  بالإدماج  والتدريب.  

وفي حديث  خاص لـ”الصيحة”،  كشف  دينق  ألور  القيادي  البارز  في  الحركة الشعبية  والوزير  السابق  عن النقاط  الخلافية  بين سلفاكير ورياك مشار،  وتتمثل  في  عدد  المقاطعات  التي  أصبحت  ٢٨ مقاطعة  وسلفاكير  متمسك  بها  ورياك  مشار  يُطالب  بالعودة  لـ١٢ مقاطعة  فقط، وكذلك  قضية  توحيد  الحركة  الشعبية  يدور  حولها  خلاف  وتنفيذ  اتفاق  الترتيبات  الأمنية  والعسكرية.

  وأضاف  دينق  ألور  بأن  وفداً  يمثل  رياك  مشار  يتولى  حالياً ملف  التفاوض  يتواجد  الآن  في جوبا  ويتوقع  عودة  مشار  إلى الخرطوم  اليوم  أو  غدًا.  

وعن قضية  أبيي  بين  البلدين  قال  دينق ألور  عن القضية  بأنها  تجاوزت  أكبر  عقبة  ممثلة  في  الرئيس  السابق  عمر  البشير  الذي  كان  يرفض  تنفيذ ما تم  الاتفاق  حوله،  وحتى  قرار  لجنة  التحكيم  الذي  هو  ملزم.

 وكشف  دينق ألور  عن تقدم  تحقق  خلال  لقاء  جمعه  بالفريق  محمد  حمدان دقلو  الذي  أكد  له  أن القضية  سيتم  حلها  في  الأيام  القادمة  بعد  الاستماع  لكل  الأطراف  ثم اتخاذ  قرارات  واجبة  التنفيذ،  ووصف  دينق  ألور  الفريق  أول محمد حمدان دقلو  بأنه  رجل  مستقيم  وشجاع،  وبيده  حل مشكلة  أبيي،  وتوقع  أن يحدث  ذلك  قريباً  جداً.

مُفاوضات قِوى الكفاح المُسلح 
*شهدت (الصيحة) المفاوضات التي جرت بين قِوى الكفاح المُسلّح ورئيس مجلس الوزراء من جهة أخرى، حول تجاوُز مصاعب بدايات إدماج هذه  القوى في المرحلة الانتقالية ودخولها لفاعلٍ رئيسي جداً. 
في فندق كراون القريب من مطار جوبا، جرت المُفاوضات في مسارات  رسمية وأخرى غير رسمية من خلال الحوارات المَفتوحة بين وزراء  الحكومة وقادة الحركات المُسلّحة،باستثناء عبد العزيز آدم الحلو الذي  اختار أن يكون بعيداً عن الرفاق الآخرين لتقديراته الخاصّة، رغم أنّ الدكتور حمدوك التقى بالحلو لوحده وتحدّث معه حول ذات القضية، إلا أنّ الحلو يعيش بعيداً عن الرفاق الآخرين ولا يسمح لقادة حركته بالاقتراب من الوسائط الإعلامية ويُحيط نفسه بغموضٍ لا يخفى على المراقب للشأن العام.
هل اقترب قادة الحركات المُسلّحة من الاتّفاق مع الحكومة؟ وما هي  القضايا الخلافية التي تقف أمام المُفاوضين؟ وهل الحركات المُسلّحة  باتت نفسياً مُهيأة للسلام؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة، سألت الفريق مالك عقار رئيس الحركة الشعبية الفصيل الأكثر تقدُّماً في رؤيته لمَشاكل البلاد والأعمق طَرحاً حتى ولو كان الأقصر ماسورة بندقية، فقال لي يا أخي أنا دخلت الغابة حاملاً السلاح من أجل قضيتي وعمري حينذاك 35 عاماً وأنا الآن عُمري 70 عاماً نصف حياتي أمضيتها في القتال، الآن لنا أن نعيش حياةً هادئةً؟ هذا لا يعني بأنّني قد سئمت النضال والكفاح، ولكن سقط جعفر نميري وبيدنا السلاح، وسقط الصادق المهدي، وسقط عمر البشير، والآن حمدوك يقول إنّه مُستعدٌ لتلبية احتياجات قِوى الكفاح المُسلّح ومُخاطبة قضايا المُهمّشين، لماذا نحمل السلاح مَرّةً أُخرى؟
نحن قضيتنا ليس عمر البشير.. لو كُنّا نريد سلطة لوجدنا السلطة عنده،  فقط علينا أن نتحمّل المذلة وبعض الكفوف على الوجه والخنوع والا لا  نقول لا.. كان البشير يعطينا ما نُريد كأشخاصٍ لكنه لن يعطي أهلنا إلا  المذلة وانتهاك الحُقُوق.
وفي الجهة المُقابلة، يقول عبد العزيز نور عُشر القيادي في حركة العدل  والمساواة إنّ السودان الآن مُقبلٌ على مرحلة مُهمّةٍ جداً من تاريخه، وقِوى  الكفاح المُسلّح إذا تفاوضت مع الحكومة لا تسعى من أجل حُقُوق الآخرين ولن تظلم أحداً، ولكنها تتّخذ من التفاوُض مع حمدوك وسيلةً لنيل الحقوق.
وفي ذات السياق، يقول ياسر عرمان: إذا كانت قِوى الحرية والتغيير قد  نظرت بموضوعية للقاء أديس أبابا ولم تُحاول بعض مكوِّناتها النكوص عن ما اتفق عليه لكانت قِوى الكفاح المُسلّح اليوم مُكوِّناً أساسياً لحكومة الفترة الانتقالية.
عرمان يذهب إلى أنّ حمدوك لم يقتل أحداً، ولم يتورّط في إقصاء سوداني  من وظيفة، وهو شاب له قُدرة على العطاء فلماذا لا نُساعده؟
لكن القِوى التي كانت تحمل البندقية، تحمل على كاهلها أثقالاً تجعلها  تمشي وهي تئن من وطأة الحمل المتمثل في آلاف الضحايا، وآلاف  الجرحى، ومعاقي الحروب الطويلة، وملايين النازحين واللاجئين المُنتظرين  الفرج من المفوضيات ولا ينتظرون تجدُّد الحرب مرةً أخرى في البلاد، لأنّ  المقاتلين يتطلّعون بعد كل هذه السنوات إلى الاسترخاء وتكوين أُسرٍ لهم  بدلاً من ركوب عربات اللاندكروزر وخوض الحروب العبثية التي لا جدوى  منها. 
خمس ساعات من التفاوض في فندق كراون بجوبا وهو فندق من الدرجة  الأولى ولكنه ليس الأفضل في المدينة، ورغم ذلك اتّخذه حمدوك مقراً  لإقامته دُون بزخٍ وإهدارٍ للمال ومقراً لمُفاوضات شاقّة بدأت بقادة  الحركات المسلحة الثلاثة مناوي وعقار وجبريل ومع كل قائد حركة  مسلحة (5) قيادات ثم خرج ثلاثة من كل حركة وبقي قادة الحركات ورئيس  الوزراء معهم الوسيط الجنوبي توت قلواك مستشار رئيس دولة جنوب السودان للأمن والوزير السلطان ضيو مطوك، وجرت الحوارات على أساس ما اتفق عليه في زيارة ولقاءات حميدتي مع قِوى الكفاح المسلح.

 وكشفت مصادر (الصيحة) من داخل الاجتماعات بأنّ القضايا التي اتفق  عليها هي:- 
1. اللجان المُشتركة لإطلاق الأسرى والمُعتقلين. 
2. لجنة مُشتركة لترتيبات الهُدنة الحالية لوقف إطلاق النار إلى حين  الاتّفاق على الوقف الدائم.
3. لجنة خاصّة بفتح المسارات لتوصيل الإغاثة برّاً وجوّاً من أيِّ بلدٍ  مُجاورٍ أو بعيد دُون قُيود وشُرُوط ولا تفتيش. 
4. لجنة خاصة لتعويض الذين فقدوا بيوتهم ومُمتلكاتهم أثناء الحرب وكيفية  تعويضهم، ولكن لم يتّضح بعد، هل اللجنة تختص فقط بتعويض ما فقدته  قِوى الكفاح المُسلّح أم ستنظر أيضاً في تعويض ما فقده مُواطنون في الداخل جرّاء النزاع؟
5. لجنة خَاصّة بترتيبات عودة القيادات إلى الداخل واستعادة الدور  التي تمّت مُصادرتها.
6. ولجنة لترتيبات التحضير لمُفاوضات جوبا في الرابع عشر من أكتوبر القادم.
وهناك اتفاق لم يشأ الأطراف الحديث عنه يتمثل في الاتصال الدبلوماسي  مع الدول الشقيقة والصديقة لحشد التأييد الدولي للاتفاق المُنتظر توقيعه.
هل من مُحاصصة قادمة؟
* واقع الأمر يقول إنّ حكومة الدكتور عبد الله حمدوك ستشهد تعديلاً وشيكاً حال إبرام الاتفاق النهائي في الشهرين القادمين، وضخ دماء الكفاح المُسلّح في شرايينها، رغم أنّ شخصية مثل مناوي تقول في حديث مع (الصيحة): لن أعود إلى القصر مَرّةً أخرى، ولكن سوف أقوم بتأسيس حزب كبير يحدث اختراقاً حقيقياً في الساحة ويُنافس في الانتخابات القادمة، ولكن واقع الحال يُشير لاتفاقٍ على تعديل مجلس السيادة الحالي بالإضافة لإبعاد البعض وتَسكين آخرين، وترشح المصادر دخول جبريل والحلو وعقار، وأسامة سعيد من الشرق. 
وسياسياً، يُعتبر دخول ياسر عرمان في قيادة قِوى الحرية والتغيير بمثابة  العثور على القطعة المفقودة لإعادة الروح السياسية لهذا التّحالُف الذي  يفتقد الآن لشخصية كاريزمية مثل ياسر عرمان.
فهل تصبح الأيام القادمة محطة الانتظار لما هو قادم..؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى