الفنان عُثمـان حُســين..عـقـدٌ مِـن الرّحيــل

جمال محمد إبراهيم 

( 1 )

        إذا كان عبد الرحمن الريح يشكّل الجسر الذي عبرت به ومعه الأغنية السودانية، من شكلها الموسيقي البدائي الخجول، والمتمثل في أغاني الحقيبة، إلى مرحلة التشكيل الغنائي والموسيقى الذي يستوعب بعد عقدٍ من الرّحيـل أنماطاً شتى من الآلات الموسيقية،  فكاكاً من إسار ضرب الطبل و”الرق”، وتصفيق “الشيالين”، وطمبرتهم. إن جاز الوصف، فإن عثمان حسين يشكل مرحلة جديدة ومتقدمة دون شك.. سبقه قليلاً في الانطلاق، إبراهيم الكاشف.. وإبراهيم عوض، وكان انطلاقاً جريئاً بالأغنية السودانية، لتكون التعبير الصادق عن آمال وأحلام  شباب جيل الخمسينات والستينات المتطلع للنهضة ثقافية وفنية، ترافق الاستنهاض السياسي الذي ابتدرته الحركة الوطنية في السودان . 

(2)        

        كانت فترة “الحقيبة” في الغناء  عند أكثر المتابعين، نتاجاً لجيلٍ منتمٍ لمجتمع يوصف بالتقليدية، لم يخرج بعد من بداوته الفطرية.. رزحت “الحقيبة” في التعبير البطيء الخجول،  والترميز المتعمّد، بالدرجة التي لا تعكّر صفو وهدوء المجتمع الأبوي، الموغل في تعظيم سطوة القبيلة وترسيخ السيطرة الذكورية، وسلطان كبير العائلة.. ذلك مجتمع في احتفالاته، تجلس الفتيات وظهورهن إلى الفنان المغني.. وكان شعراء تلك الحقبة، من أضراب العبادي وعلي المساح وود الرضي  وأبي صلاح، يتحايلون تحايلاً بليغاً ليكتبوا لنا شعراً مرهفاً ..

      أما مرحلة الخمسينات، فقد برز فيها إبراهيم الكاشف وإبراهيم عوض وعبد الرحمن الريح ووردي، وأضرابهم .. رموز  النقلة الكبرى، من أغنية الحقيبة المغلفة بالإشارة والترميز، إلى أغنية المدينة الأمدرمانية، التي تستجيب لأسلوب حياة فيه بعض انفتاح، فكانت هذه الجدة التي نراها في اللغة المبتكرة والتي يكتب بها شعراء  المدينة، والأداء الموسيقي الجديد، المتأثر برياح الفن والثقافة القادمة من الشمال.

(3)

        ثم جاء عثمان حسين.. 

       لا أؤرخ لك عزيزي القارئ  لعثمان.. لكنه، مع توأم روحه، بازرعة، شكلاً ثنائياً جريئاً، مُتحدياً . 

       إن “القبلة السكرى”، والتي كتبها بازرعة وهو طالب في المرحلة  الثانوية، في مدرسة وادي سيدنا القديمة شمال أم درمان، شكلتْ محطة رئيسة لقياس ترمومتر التحوّل الإجتماعي والثقافي، في مجتمع المدينة النامي  وقتذاك. ضاق صدر “طالبان” ذلك الزمان البعيد، فأوعزوا لإدارة الإذاعة السودانية، وهي الرئة الوحيدة التي يتنفس بها فن الغناء وقتذاك، أن تحظر إذاعة  أغنية “القبلة السكرى”.. لكأن الفاحشة ستشيع من محض أغنية .. ! كلا، ليست هذه الأغنية هي الأولى التي تحظر. معها “ليالي الغرام”، التي تغنى فيها عثمان حسين بجرأة محببة، وأنشد شعراً كذوباً محبباً، وكذلك “فتنتي” للراحل المقيم في شدوه، الفنان أحمد المصطفى. لـ”طالبان” باكستان وأفغانستان الذين نعرف الآن،  جذور قديمة، عندنا في سودان الخمسينات، كما ترى! 

(4)

        إن لبازرعة، سهماً معتبراً في تشكيل لغة المدينة الغنائية، والارتقاء بها، اقتراباً دون إسفاف من اللغة العربية الفصحى.. أما شعره الرقيق، فهو الأقرب لأسلوب الشاعر الراحل العظيم نزار قباني. غير أني مفتون بمعالجته للغة المدينة الغنائية،  التي أبدع في تسليسها على لساننا العامي . ولك أن تنظر كيف صاغ السفير الراحل صلاح أحمد لعثمان حسين “ليالي الغرام” و”مات الهوى”. ولك أيضاً أن تنظر إبداع بازرعة لأهزوجة ” لا وحبك”، وقد حدثني حين التقيته في لندن عام 2004، أنه استجمع لحنها في لندن في “بيت السودان”، الواقع في مجمع “روتلاند قيت” في حي “نايتسبريدج” الراقي في قلب لندن، أوائل الستينات. قبل سنوات قليلة  ذهب طرفاً من تاريخ فننا الغنائي بانتقال بيت السودان لأيدٍ لم تسمع “لا وحبك” ولا تعرف الراحل عثمان حسين أصلاً، فقد باع النظام البائد بيت السودان” .

(5)

        لو نظرت في هذه الأغاني وغيرها، مما تغنى به عثمان حسين، ستجد فيها الكثير من الذي عنيته لك هنا.  لبازرعة ولصلاح أحمد الفضل الكبير في تطويع الفصحى وتزويجها بعاميتنا السائدة في لغة المدينة الآن .   اقرأ معي تعابيـر مـثل : “أصف حسنك..” أو: ” تغريني بحنانك..”، أو “مات الهوى” ، و”كيف لا أعشق جمالك”. 

 ألا ترى معي أن في هذه اللغة الجديدة، سمات لم يتعود السودانيون سماعها في عامية السودان التي سادت منذ عشرينات وحتى  أربعينات وخمسينات القرن الماضي؟

       إن  في لغة  بازرعة طفرات جريئة، شكلاً وموضوعاً.  فمن تجرأ غيره ليكتب عن قُبلة سكرى..؟ ثم انظر  إلى عثمان، يفيض أداؤه لأشعار بازرعة عذوبة، فيضفي عليها رقة  على الرقة التي فيها، ورشاقة في اللحن توازي رهافة شعر بازرعة ورقة صلاح أحمد، فلا تكاد تستبين، أيهما خلد الآخر: الشعر الرشيق أم الأداء الخلاق.. ؟  أم إن لذلك كله صلة بجنوح الشاعرين بازرعة وصلاح نحو كسر الرتابة الاجتماعية التي وسمت أسلوب الحياة ذلك الزمان، وفي أخذهما، أخذاً سمحاً، من التراث والتقليد، دون إلغائه أو إهماله، ثم التدرج به نحو تجويد جريء، يتسق وروح أسلوب الحياة المتفتح، في سنوات الستينات، من القرن الذي مضى .. ؟ 

(6)

         ما كان عثمان  حسين، بعيداً عن دوائر ومراكز الإبداع التي انداحت في المدن السودانية،  وأولها مدينة أمدرمان.. إن ندوة الأديب الراحل عبد الله حامد الأمين، في مدينة أمدرمان، ستينات القرن الماضي، شكّلتْ مزاجاً إبداعياً متفرداً، في تلكم الفترة المبكرة، وانتمى إليها الراحل عثمان حسين، ومعه لفيفٌ  من الفنانين والأدباء.. من محرابه العظيم، حبيس الإعاقة الخلاقة، عبد الله حامد الأمين، خرجت فكرة أداء عثمان المميز، لحناً وموسيقى وغناءً، لرائعة التجاني يوسف بشير: ” محراب النيل”. قال عثمان أنه تهيّب أول أمره معالجة هذه القصيدة الرائعة، فهي مع قافيتها – الكاف الساكنة –  توحي إيحاءً جلياً بالتمهل في الانسياب، لا تخطئه أذن موسيقية مرهفة .. ذلك هو نهر النيل المتمهّل في الانسياب شمالاً، ولكن تطويع القصيد الرصين إلى جملٍ موسيقية معبّرة، وأداءِ مرهفٍ ، من طرف عثمان حسين، جعل من قصيدة “محراب النيل”، قمّة توازي عند المقارنة ، موسيقى “النهر الخالد ” لعبقري الموسيقى العربية محمد عبد الوهاب، أو قل تفوقت عليها . 

        لقد أصابت “ندوة أمدرمان “، باقتراحها على عثمان حسين، قصيدة التجاني العظيمة، والرسالة التي تصل الذائقة الموسيقية المصرية، هيَ أنّ للسودان في النيل، قصيداً وأداءً وموسيقى، وليس كما أراد الموسيقار محمد عبد الوهاب – على عبقريته – أن يكون النيل عنده،  لحناً موسيقياً خالياً من القصيد والكلام المنظوم.. 

  (7)

       إن عثمان  عندي، هو جوهرة تاج الستينات في الغناء،  ولبازرعة في ذلك سهم وأيّ سهم.. لعثمان بريقه المميز، ورصانته اللافتة، وله الصوت الدفيء، المحتشد  بعاطفة مشبوبة آسرة. لعلّ تلك هي سمة من سمات تلك السنوات الذهبية بكلّ المقاييس، في سوداننا الحبيب… غير  أني لن أوفي عثمان، كامل حقه، فذلك يقصر دونه قلمي وتقل فيه خبرة لا أدعيها. لربما فاقني حباً لعثمان بعض المتخصصين من أهل الموسيقى، وهم كثر . أعرف عن صديقنا العزيز البروف جعفر ميرغني  الذي يعرفه الناس مختصاً بالتاريخ والآثار، ولكن هو ممن أولعوا ولعاً كبيراً بفن الراحل عثمان حسين، وليته يستكتب من قريحته ما يزيدنا معرفة بأسرار فن عثمان حسين وعبقريته الموسيقية. 

 (8)

        هذه خاطرات عنت لي أن أشرك فيها قراء الصحيفة، بعد مرور ما يزيد عن العقد من رحيل هذا العبقري.   كنتُ قد التقيته قبيل رحيله بنحو عامين أو ثلاثة، حين قدم إلى لندن، مستشقياً عام 2004، وأنا أعمل نائباً للسفير في سفارة السودان في المملكة المتحدة..  سعدنا أيّما سعادة، حين أسمعنا صوته الشجيّ، الذي ألفناه فأطربنا، بعد سنوات من صمت اختاره، لمواقف تتصل بحزنه على حجب عدد من أغانيه إذّاك، وكان اختياراً  أحزن محبّي وعشاق فنه.. سيفتقده جمهوره ومحبوه وسيفتقده سودانه الذي عشق، دون ضوضاء.. و”أرضه الطيبة” التي طالما تغنى بها ولها : “بلادي أنا.. ” . 

       أيها الراحل العظيم، نم هانئا، فأنت بيننا مقيم بما تركت من أثر لا يمحى. . 

الخرطوم – أغسطس 2019

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى