علي مهدي يكتب: عقل الفن في مُناهضة صناعة العُنف

21  يناير 2023

القاهرة للفنون والحلول السياسية المُمكنة وغير المُستحيلة
عُدت يا سادتي للقاهرة التي أحب وأعشق، هذه المرة، ولم يطل غيابي عنها، وهو عادة لا يتعدى الأوقات الطويلة، وهي دوماً في الخاطر. واليوم الخميس، حيث اكتب صباحاً باكراً، مشيت نحو وسط البلد، والتي أعرفها ومختلف تفاصيلها الأدق والأمكنة، جلست فيها بين مناحيها، والحالات وقتها وبعدها والآن تختلف، والتصاوير أمامي تتداعى بحسنها وغير ذلك، الشوارع هي ذاتها والناس كل في ما هو فيه مشغولٌ.
ومشيتي تختلف هذه المرة، ما كانت أيام البرد تلك سنواتي الأولى فيها تؤخرني ولو قليلاً، أعبر الشارع واثقاً ملكاً، لي في كل الأنحاء وسط البلد حكاية وأخرى. يوم جئت أول مرة عابراً منها نحو (تونس) الخضراء ومهرجان قرطاج السينمائي الدولي يفتح الصالات، القاعات، الشاشات لفيلم (عرس الزين)، مالي أكثرت أيامي هذه قصص (عرس الزين)؟ ولأنه عشقي، الرواية، ثم الشخصية وما إلى ذلك من فتوحات اردها لها، لا في الذكرى، لكن في الفعل المبين، بها وقفت على مسارح المعمورة، تلوح لي في البعيد، ذاك الصباح الباكر بين صحوة وغفوة، بها راحة وتفكير، متاح في تفاصيل المشهد التالي، و(الزين) جالس أعلى المكان يحرك الحبال فترن الأجراس، تباعد بين الطير المتحرش بالزرع والورد. نعم فيها اللحظة هنا في القاهرة، رجعت لسنوات التصوير للمشاهد في القرى على أطراف النيل الوسيع يومها، ثم نعبر لقرية أخرى، والناس كلهم واقفون يسهموا بالممكن من المساعدات والعون المستحيل أحياناً، وأفكر الآن من الذي صنع الشريط العالمي للفيلم صاحب الجوائز العالمية؟ وتلك حكاية أخرى، لكن حكايتي وشخصية (الزين) عادت للقاهرة، لكنها بشكل مغاير، يوم وقفت خلف ذاك العرض المسرحي الكبير (عرس الزين) والمشخصاتية الكبار من عند مكي سنادة ومحمد شريف علي وعبد الواحد عبد الله وجمال حسن سعيد ومحمد نعيم ومصطفى أحمد الخليفة، وعليه الرحمة عبد الحكيم الطاهر يسوي الصفوف ويعدل المائل، والكل كان هنا في القاهرة قبل سنواتٍ، نجدد العهد والعرفان لسيدي الطيب صالح، ونقدم تجربة مسرحية كبيرة، أسعدتني حكاياتها هنا في القاهرة.
والبارحة هنا دعيت للقاء مسائي مع بعض الأحباب عشاق الفنون بلا تفاصيل، فيهم من أهل السياسة والعلوم والمعلومات، وعشقهم لا وقفة له، وأخرى عابرة، لكنهم فهموا وعرفوا أنّ للفنون أدواراً تتعاظم أوقات المحن، وتذكّرت (عرس الزين) الفيلم، ثم العرض المسرحي الكبير على مسرح السلام غير بعيد من القصر العيني، ثم قبلها تذكّرت كيف مشيت رغم تأرجح الفن والسياسة فيها، القاهرة، والأوقات في الوطن أكثر تعقيداً مما هي عليها الآن، لكن حلم الفن غلاب، وفي مكتبي القديم، حيث جلست لسنوات استقبل في أكثر الأوقات تعقيداً علي مشهد السياسة العربية، والرايات والأعلام، تغيب عنها دور السفارات العربية في عاصمة العرب القاهرة التي نحب ونعشق، لكنها حاضرة كانت في مكتبي بالطابق الثالث في عمارة التأمينات المصرية رقم (١٧) شارع قصر النيل الأشهر، جالس وحدي، وأحياناً أكثر مع مبدعي الأمة العربية، دخلوها القاهرة بفعل سحر فنون العرب، ومصر مركز إشعاع ومنارة لفنون العرب، وبينها الأحلام الكبرى، نجحنا لتكون مقراً وعاصمة للفنون العربية، واستقبلت الكثيرين هنا، مشيت معهم نحو المقهى الأشهر، نخفف حدة الحوار إذا ما مشى أبعد من خططنا له، أعبر الشارع، أقف في مكتبه (مدبولي)، أكون قد سألت عنها بعض كتبي الأهم والأحباب، وتكون حاضرةً، أدخل (جروبي) أعشق المكان، فيه من الأركان ما يمكنك العودة للهُدوء بيسر، ثم نعود لنواصل حوارات الظهيرة. فيها من الفن أقل، ومنها السياسة الكثير، وكان كل ذلك مُتاحاً ومُمكناً كما هو الآن فيها (قاهرة المعز) في جهدها الإنساني والسياسي لدفع فكرة بناء الوطن سياسة وتنظيماً وإدارةً حديثة تلحق بالممكن من فرص الترقية والتطوير.
نعم…
البارحة، مشيت بعد هذه السنوات في ذات الطريق، والعشق القديم يتجدّد بلا تردد، نعم، وفيها أيام الشتاء كما أنا الآن، مُغايرٌ، الوقت في الصباحات البهية يجري على عجل، ولا يتمهّل، لتمتع البصر، ولا تدرك معه كم وقتاً مضى، والشوارع أقل ازدحاماً، لكنها رغم بردها تمنحك دفئ الوجد، كما المشتاق للحكايات القديمة، تشارك في صناعاتها بما يتاح لك من فرص، أو تدخل الفضاء مُستمعاً للأقوال من أصحابها حاضرة طازجة، قبل أن تطبع وتمشي حكاية بين أخريات، تقف بعدها بسنواتٍ، تمتع النظر بتأمُّل الأغلفة الملونة في أرفف مكتبة (مدبولي) غير بعيدٍ من مكتبي القديم في الناصية الأخرى.
والوطن منقسمٌ!
لا منشغل!
الوطن مُحتارٌ!
الوطن فيه ما يكفيه، والحال، حالة لا تعجب جاراً أو قريباً، لأنها حالة لم يعرفها التاريخ السياسي المعاصر، وقد عرفنا كل أشكال الأزمات، لكنها هذه هي الأخيرة، ممكن.
وانا فيها القاهرة ألمح فرص الحلول ممكنة بالشراكات، والنظر للغد، إلى أبعد من الرأي والرأي المغاير. ولن يكون الرأي رأياً إذا ما وافق الجميع عليه. والجهد القاهري الراهن يُمكن النظر إليه فرصة، ولا حساسية عندي من جهود الأحباب الشركاء في الإقليم الجغرافي والمستقبل الممكن، خاصةً إذا ما استدعيت بوعي تعابير أقدم.
(نحن شُركاء في المصير والمستقبل الأفضل)، وتلك مما لمحته في حواراتي أيّامي الماضية، منها عبر الهاتف، وأخريات أهم حضور مباشر، وفرص النجاعة فيه أقرب للحدوث، خاصةً زنها بين الأقرب منهم إلى مواقع القرار السياسي القطري والإقليمي والدولي، وكان الشأن السوداني بين يدي اللحظة بلا تردُّد. وعندي أنّ الحوارات ينبغي لها أن تمشي أكثر فأكثر. هنا في (قاهرة المعز)، أو في مدن تكن للوطن خيراً، وبها مع كل الأطراف الوطنية مصالح متجددة.
دهليزي ذهب أبعد ما أنظر له، علّني تأثرت كثيرًا بأجواء الفرص الممكنة الآن فيها، (القاهرة)، ومنها تبدأ عندي حكاية وأخرى أكثر جمالاً، وأنظر لها الفرص الممكنة، لا بالفنون وحدها كوسيطٍ، لكن بالاقتصاد والأحلام المشتركة.
وهل أنت فيها قاهرة المقترحات والاحتمالات؟ دون أن تدفع بفرص التعاون المشترك المتجدد، خاصة فيما نعرف ونجاهد أن يكون بإتقان فنون الأداء والمسرح، والبقعة المباركة المهرجان قادمة تحمل فيها وبها فرص أفضل للعمل المشترك المصري السوداني، ثم الشراكة العربية والأفريقيّة والأمازيغية، هذه المرة أكثر قربًا من عروض تجدد أجواء الوطن، وسعي المخلصين للبناء الوطني الجديد. والبقعة المهرجان يفتح الفضاءات كما فعل قبلها لفنون الأداء العالمية من الغرب الأقصى، ومنها آسيا وفنونها الأقرب.
(القاهرة) في جمالها دهليزي يبشر بفرص أفضل لأيّامٍ قادمة بخير.
ومصر في كل ما فيها من جهود النموذج الأقرب لأشكال الاستقرار الممكن للوطن ولأهله.
البارحة شهدت مصر والقاهرة المنيرة، حدثاً سياسياً وثقافياً واقتصادياً وفنياً وزعلامياً كبيراً.
تجمع سوداني مصري مهم له ما بعده. والفتوحات منفتحة على كل الاحتمالات، أكتب عنه بالتفصيل لأنني أعشق المبادرات الخلاقة، الأهم فيه أنه مدني في الفكرة، المبادرة، المقترحين، المنظمين، المشاركين والرعاة بالوعي الاقتصادي المبكر الجديد.
دهاليز الزمن أكبر من كونها كتابة، تمشي القديمة نحو أن تكون كتباً تحفظ ما كتبنا،
نقف منها مشاهدين لا مُناصرين.
خرجت الكلمة.. كبرت الكلمة صارت دهليزاً.
نعم،،،

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى