سراج الدين مصطفى يكتب: على طريقة الرسم بالكلمات

 

(1)
حينما نبحث عن التجارب التي رسخت في وجداننا، من المستحيل أن نتجاوز فنانا وسيم الغنائية كأحمد شاويش.. وحينما نبحث أيضاً عن التجارب التي ماتت بسبب الكسل لن أجد نموذجاً غير أحمد شاويش.. والرجل جمع ذلك التناقض الغريب حتى أطلق عليه ذات يوم الراحل أميقو لقب (فنان بلا جمهور).
(2)
تلك الجملة رغم قساوتها، ولكنها تؤكد على صحتها في كل يوم.. لأن أحمد شاويش البعض يطلق عليه فنان الأذكياء، لأن أحمد شاويش فنان خاص، غنائيته عصية على الأذن العادية.. فهو يحتاج لاذن استثنائية لها مقدرات أكثر خصوصية، فأحمد شاويش يخاطب الدواخل بصوته ويلامس شغافها بغناء فيه الكثير الذي لا يتوافر عند غيره. – عطر الصندل – العمق العاشر – عادي جداً وعن عيونك كلموني.
(3)
والرجل له فلسفته في كيفية الغناء.. فهو يغني لأجل نفسه لذلك ينتقل ذلك الإحساس للآخرين .. فكانت اغنياته بمثابة وعاء انيق لشكل غنائي سهل الهضم والتقبل.. وأغنيات مثل بتذكرك كالإنسان حيالها الا أن يصغى ويتأدّب.. ولكن رغم مقدرات أحمد شاويش التي يعترف بها الجميع ولكنه ظل بعيداً ورغم أنه يعمل في الإذاعة وكان يمكنها أن تكون جسره الذي يربطه بالمستمعين، ولكن أحمد شاويش يقف في ذات المكان والمكانة في حالة تدعو للاستغراب والاستعجاب.. والمؤلم أن أحمد شاويش يساعد في غيابه فهو (كسول) ولا يدري عمق وحجم موهبته التي كادت أن تندثر أو اندثرت بالفعل!!
(4)
تشبع الفنان وردي بروح خليل فرح وجيلي، ولا غرو فإن إجداد الفنان محمد وردي يقال إنهم كانوا حكام المنطقة من جزيرة صاي، وفرّ جده حسن وردي من جزيرة صاي عقب اختلافه مع حملة التركية الأولى واستقر أخيراً في صواردة.
(5)
ولعل روح محمد وردي المتوثبة إلى التحرر من الاستعمار وتبعاته كانت تعبيراً عن تلك الروح النوبية التي كانت ترفض الاستعمار الإنجليزي، وتتهكّم منه، وتسعى إلى بناء سودان جديد مستقل ومتحرر من كافة أشكال الاستعمار.
أسهمت الأناشيد التي تغنى بها الفنان وردي إسهاماً مباشراً في بناء روح التحرر والانتماء إلى الوطن في شباب السودان منذ الاستقلال على مر العهود المختلفة التي مر بها السودان، وبذلك أسهم في تشكيل جانب كبير من سيكولوجية الأجيال الناشئة على امتداد القطر السوداني. ولعل الشعور العميق للشباب النوبي خصوصاً وغيرهم من أبناء الوطن بالانتماء إلى السودان الحديث، وتفانيهم من أجل وحدته، يعود فيما يعود إلى ما بث فيهم هذا الفنان المبدع من حب الوطن.
(6)
وبرغم نوبيته، فإنّ الفنان وردي قد غنى للاستقلال ومكافحة الاستعمار، وغنى للتقدم والثورة باللغة العربية. وأصبح شباب السودان في شماله وجنوبه وباختلاف مشاربهم وقبائلهم وأحزابهم يتغنون بتلك الأناشيد العربية، وكثيراً ما كان بعضهم لا يفهم ما يتغنى به (وكنا نحن النوبة في طفولتنا من بينهم)؛ ولكن كان يكفيهم أن يفهموا أنهم يتغنون بالعربية كلغة قومية، ويغنون للسودان، ويعتزون باللغة العربية وبانتمائهم للسودان.
(7)
أغنية واحدة بقامة ووزن (كلمة) كافية لأن تؤشر على عبقرية المبدع الراحل صلاح بن البادية.. وتلك الأغنية لو لم يغن غيرها سنعترف به فناناً جميلاً له مقدرة أن يبدع ويقدم غناءً مختلفاً ويحتشد بالجمال والتطريب والدهشة اللا متناهية.. ومن كانوا يسألون عن سر التألق الدائم لهذا الفنان الجميل، عليهم التوقف في تفاصيل حياته الشخصية والمهنية وتقليب دفاترها جيداً لاستقراء التاريخ وكيفية بناء الشخصية المبدعة من خلال الالتزام الأخلاقي.. فهو كان نموذجا للفنان الملتزم الذي لم تلوث سمعته أي شائبة ولم نسمع عنه ما يشين طيلة فترة وجوده في الوسط الفني أو حياته ككل.. ولعل ذلك الالتزام والاحترام انعكسا على تجربته الفنية ذات القيمة العالية والألق المستمر الذي لم يفتر مده حتى بعد وفاته.
(8)
تأثر الراحل صلاح بن البادية بالجو الصوفي والالتزام الأخلاقي الأسري، لذلك ضجت أغنياته بالجمال والقدرة على اختيار المفردات ذات البعد الوجداني المؤثر، بالنظر لقائمة الأغنيات التي تجمعه مع الشاعر الكبير محمد يوسف موسى، نجد أنه كان يتقن اختيار كلماته بقدرات مذهلة ويضع لها الألحان التي تناسبها وتظهرها بمظهرها الحقيقي الذي أراده شاعرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى