منى أبوزيد تكتب : تباينٌ ثقافيٌّ..!

24 أكتوبر 2022 م
“الثقافة هي ما يبقى بعد أن تنسى كل ما تعلّمته في المدرسة”.. ألبرت أينشتاين..!
قرأتُ ذات سانحة قصةً طريفة رواها أديب سوداني في أحد مواقع الإنترنت، تحدّث بشجاعة وصراحة عن اضطراره ذات مرة للتسوُّل في أحد المطارات العالمية لظروف قاهرة جداً، حيث كان مُفلساً وتأخّرت طائرته، الأمر الذي كان يعني قضاء بضعة أيام في مطار بلادٍ طيرها أعجمي بلا طعام أو شراب..!

وبعد أن وبّخته عاملة “الكافتيريا” وقامت بطرده وكأنها تهش ذبابة، فقط لأنه طلب منها بعض ما يسد رمقه بعد أن شرح لها مأساته، لم يجد خياراً غير التجوال بين مقاعد المسافرين يكاد يغمى عليه من الجوع والعطش والإعياء وهو يخطب فيهم مُردِّداً أشعاراً بالإنجليزية تارةً وشاتماً إيّاهم بالعربية تارةً أخرى..!
وعلى الرغم من أنّ طبيعة الظرف القاهر هي التي جعلته يتحوّل إلى شحاذٍ مُؤقّتٍ حتى لا يموت من الجوع في بلاد العجم القاسية قلوبهم، إلا أنّ الاعتراف بالتسوُّل لثوانٍ معدودة في مجتمع كمُجتمعنا يتطلّب قدراً كبيراً من الشجاعة أو اللا مبالاة..!

ولعل الفضل في استنكار المُجتمع السوداني لفكرة التسوُّل وتلك الأنفة والكبرياء التي يلحظها الآخرون من الشعوب العربية في سُلوك المُغترب السوداني – مُقارنةً بغيره – يرجع إلى تلك البرزخية الإثنية والجغرافية التي تميّز بلادنا، أي أنّ الفضل في ذلك لا يعود إلى الدماء العربية ولا الأفريقية، بل يعود لحال امتزاجهما معاً..!
الطريف حقاً أن أحد الشعراء الخليجيين الشباب قام قبل فترة بالتسوُّل علناً وعلى رؤوس الأشهاد، بل وعلى الهواء مُباشرةً في برنامج “شاعر المليون” الذي يُمكن أن نصفه للذين لم يشاهدوه أو يسمعوا عنه بأنّه النسخة الخليجية من برنامج “أمير الشعراء”، حيث إنّ موضوعه هو “الشعر العامي النبطي”..!
فاجأ ذلك الشاعر الشاب الجميع بقرار اعتزاله المنافسة على اللقب وعلى المليون بعد أن ألقى قصيدة طويلة في مدح ولي عهد دولة الإمارات الذي كان حاضراً، ثُمّ خاطبه قائلاً “أتمنى منك يا طويل العمر أن تتولّى مصاريف زواجي”. وكانت ردة فعل الجميع هي التصفيق والتهليل، بينما ذهب هو للسلام على ولي العهد وأخذ يقبل رأسه بحماسة وتأثر شديدين بعد موافقته على طلبه..!

وصفّق المشاهدون العرب، بينما قد لا يستطيع المشاهد السوداني ابتلاع غرابة مثل هذه التصرفات التي تنتجها ثقافة وأعراف مُجتمع مُختلف عن مُجتمعه. لن يستطيع ذلك وإن اختلط بهم وذاب فيهم وتشرّب طبائعهم، سيظل ما حدث في نظره تسوُّلاً ليس أكثر. بينما يحتفي الآخرون بهذا السلوك أيّما احتفاء، بل إنّ بعضهم قد يحسد الشاعر الشاب على ذلك الشرف العظيم..!

لكن النزاهة والأمانة تقتضي أيضاً أن نقول إنّ الرجل لم يفعل شيئاً سوى أنه قد قام بإحياء ثقافة عريقة وضاربة بجُذورها في تاريخ الشعر العربي “ثقافة المدح مقابل العطاء”..!

 

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى