د. كمال الشريف يكتب : (التسويات) مقابل التنازلات

7 أكتوبر 2022 م
في العام ١٩٨٨ كتبنا عن كثير من الخلل في وزارة التجارة التي كان يتزعمها مبارك الفاضل، وأصبح الرجل وزيراً للداخلية، وكانت أول أوامره اعتقالنا ونخن صحفيون نكتب بشفافية ووطنية وحُسن نية، لم نعرف وقتها ظرف الوزير ولا غداء الوكيل ولا سيارة المدير ولا سفرية السفير.
كنا نكتب للبلد الأقوى في أفريقيا، البلد الأنظف في صحافته وفي أناقة إعلامه، وفي علمية تناول ساسته وأهله لكل أرجاء الوطن،
وأصدر الرجل أمراً باعتقالنا بموجب (لائحة الطوارئ) بدون تُهم، ولكنها كما كانت (كعب داير ما بين كوبر وسجون أخرى).
تابعت وقتها محاكمات سدنة مايو وكان أشهرها على المرحومين بهاء الدين محمد إدريس وعمر محمد الطيب، وتابعت من داخل المعتقلات من كوبر للسلاح الطبي أمر الرجلين بتواجدي المستمر معهما ومع من كان يتابع قضاياهما، وعرفت وقتها أن أكبر التهم وُجِّهت لعمر محمد الطيب باستلامهم ٣٥ مليون دولار في قضايا مختلفة، أشهرها (تهريب الفلاشا)، وأن المال في أحد البنوك الفرنسية، تصور ٣٥ مليون دولار فقط وليس ما نسمعه أو نعرفه اليوم أو ما تم تداوله، وقد بان منه ما بان واختفى ما اختفى من أموال ومن ذهب ومن جاه.
وجاءتني الأخبار فيما بعد بأنه قد تمت التسوية مع عمر محمد الطيب واودع ١٥ مليون دولار في حساب حكومة السودان وتم إخلاء سبيله، هذا ما حدثنا به صاحب صحيفة السياسة الأولى وقتها في صف الصحافة السودانية وكان الرجل رحمة الله عليه (خالد فرح) مميزاً في حديثه عن قضايا تمس شرفاء من الجيش ومن السياسة أمثال ابو القاسم إبراهيم وخالد عباس وحتى عمر محمد الطيب، كان يزور نسيباً له مريضاً في السلاح الطبي أيّام اعتقالنا الأخيرة ونحن مرضى. إذن هي تسوية مال وليست تسوية سياسة أو تسويات وطنية.
وجاءت بعد ذلك تسويات على مستوى أفريقي، ولكنها كانت من أجل إحياء موتى من قبورهم وتشييد نهضة على شواهد قبورهم، وكانت روندا بمذابحها وتصفيتها العرقية ودمارها الذي يشبه يوم القيامة الا قليلا، واقتلعت المذابح والاغتصابات والحريق إنسانية العالم وليست سياسة العالم، ولكنهم اهل البلد انفسهم، عادت اليهم بلادهم بعد الجلوس وهم يضعون على الموائد حق الشهداء والقتلى من كل الجوانب وكل الاعراق دون تمييز لقبيلة أو لقرية أو لجماعة، ودون النظر في حق تقسيم للسلطة أو الثروة أو إعادة المنهوب، وماذا يكون منهوباً أكثر من قتل وحرق ملايين الناس من كل الاعراق ومن كل القبائل ومن كل الأعمار. كانت تسويتهم باسم التسامح الوطني دون النظر لاتهام أو حتى لاسترداد حق بشري أو قصاص أو حق مادي بمعنى النظر في السلطة والثروة وحق المفقودين والقتلى وبحثا لتوزيع مناصب، وقامت بلادهم عملاقة لانهم لم. يقتسموا سلطة أو ثروة، ونحن نعكس كل معايير الوطنية، نسمي أنفسنا بمسميات لتحرير السودان، وأخرى لحق العدالة والمساواة وثالثة لحق التغيير والتعديل ورابعة لحق إقامة الدين كله وخامسة لحق اننا تحت التهميش، واغلب الأمر أن كل من يقود اتجاها لا يمتلك برنامجاً لتسوية الأمر الوطني، وكل التسويات مالياً قبل ان تكن وطنياً. ونحن نفقد سنوياً اكثر من ٣٨ ألف خريج جامعي يذهبون خارجاً والعمل في مهن لا تعدو ان تكون تحت مسمى الصفر الوظيفي لتأهليهم الجامعي، ونحن نفقد سنوياً أكثر من ٢٢ ألف خريج من طب وصيدلة، ونحن مستشفياتنا تجد في بعضها طبيبا واحدا مقابل ٥ آلاف مريض، ونفقد سنوياً أكثر من ٤ مليارات دولار نتيجة تلاعب في أوراق رسمية في كل معاملاتنا الحكومية الخاصة بالاستيراد والتصدير، ونفقد سنويا أكثر من ١٣ مليار دولار لكنوز تهرب من السودان من ذهب وحيوانات ويورانيوم ونحاس وكثير من الثروات القومية حتى سلعنا التي كانت مدعومة، ونفقد سنوياً أكثر من ٢ مليار دولار نتيجة فساد وظيفي وإداري من أعلى هرم السلطة إلى أسفلها، ونفقد سنوياً لخزينة الدولار أكثر من ٢ مليار دولار بسبب التهرب من سداد رسوم حكومية أو التلاعب في تحصيلها، ونفقد سنوياً أكثر من ٢٩ ألف امرأة نتيجة خطأ في الولادة أو ناسور بولي، واكثر من ١٢٢ الف طفل لسوء التغذية وعدم وجود رعايا صحية، ويزيد عدد إصابات السرطان بواقع ٥٥ الف إصابة سنوياً المسجلة فقط، ومنهم ٤٠ ألفاً لا يجدون علاجاً، ويصبح عندنا أكثر من ٧ ملايين متشرد كل ٦ أشهر ويزيد عدد المدنيين من الشباب بصورة مخيفة، كل هذا وأكثر حدث في دولة مقدار دخلها السنوي يزيد عن ٦٧ مليار دولار ونهبت منها خلال حكم ٣٠ عاماً ما يزيد عن ٣٠ مليار دولار.
ونعود للتسوية من أجل أن يكون لنا وطن. كيف نسمح بأن تعود البلاد إلى قائمة الدول الأكثر فساداً والأقل نمواً والأكثر فقراً وأمية وامراضاً، بأن يعود مقابل تسوية أموال وسلطة نهبها وفشل فيها، يعود هو ويديرها مرة اخرى.
هنا التسوية تتوقف كما توقفت أيام محاكمات سدنة ولصوص مايو وبكل الكبرياء الخاص بهم يغادرون البلاد خارجاً، وان بقي منهم احد بالداخل لزم بيته أو مكتبه ولم يتحد ويصرح ويصرخ معه آخرون من اجل العودة لإدارة أمة نُهبت مواردها، ونُهبت كوادرها العلمية، وضاعت هيبتها وسط أولادها ووسط الامم كيف هذا. أعتقد أن التسوية تبقى في حق أن يعود الحق لأصحابه مالاً ونفوذاً واستحياءً بدون أن تقسم سلطة أو ثروة، وتبقى البلد لأصحابها النبلاء والعلماء والوطنيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى