إبراهيم أحمد الحسن يكتب: من شرفة باندونق الفتية

إبراهيم أحمد الحسن

رأيت فيها الفجر يطل على أجنح غيمة

آسيا وأفريقيا .. من شرفة باندونق الفتية

(1)

في حيرة من أمري أيكون مدخلي للكتابة الجغرافيا والتاريخ لباندونق و( آسيا وأفريقيا) أم المعاني والجمال فتكون باندونق ذاتها وآسيا وأفريقيا، الملهمة والقصيدة .. باندونق وما أدراك ما باندونق تلكم المدينة الوادعة التي تستلقي في وسط جزيرة جاوا.. كانت الجزيرة هي (جاوا الغربية) والحاضرة فيها هي  باندونق المدينة التي حباها الله جمالية   تتمثل بالطبيعة الساحرة، كشأن مُدن خط الاستواء، وبزخّاتِ مطرٍ يكاد لا ينقطع، وخُضرة داكنة وزفّة ألوان تتجلّى في كل رموز الطبيعة وكانوا يسمونها مدينة الزهور أسماً ومسمى فأين ما يممت وجهك ثمة ورود وزهور وسنى ومتفتحة صاحية والفراشات الملونة لا تنفك تحوم حولها تلثم ثغورها أو تحتوى بتلاتها بإحاطة من أذرع حانية.

(2)

باندونق مدينة الجمال والخضرة والناس الجميلين مبني ومعنى، ظاهراً وباطنا، باندونق هي باندونق ولا أريد التوغل فيها وأسرح في الكتابة عنها لأنني لو فعلت فلن أعود . . الدكتور تاج السر الحسن لم يزر يوماً اندونيسيا ومع ذلك جلب الجمال حسناً في قصيدته تلك، كانت ملهمتها باندونق ومحورها باندونق وكل مقطع فيها يقود إلى باندونق وينتهي منها وإليها . صحيح أن الشاعر الدكتور تاج السر  الحسن أبدع وتفوق على نفسه وهو يطير بعين الخيال إلى باندونق وقالها بصريح عبارة وفصاحة بيان ولسان أنه ما زار يوماً اندونيسيا أرض سوكارنو إلا أنه برفقة السنا نظم أجمل أغنيات الكابلي وأناشيده .

(3)

أحزم أمتعتي وأيمم وجهي شطر أندونيسيا ووجهتي النهائية فيها باندونق، أمتعة قوامها شنطة يد بها بضع دثار من ملابس وكتابين أحدهم إلياذة الأدب العالمي للسوداني القح الأديب الطيب صالح (موسم الهجرة للشمال) والآخر كان كتاب ( الضحك في بيت البكاء) للراحل اللواء محي الدين محمد علي، لعلي قد قرأت رواية الطيب صالح للمرة العاشرة بعد المائة ومع ذلك حملتها معي زاد وتعويذة (ولحظة من وسن) لعلها تفعل بي مثلما تمنى محمد مفتاح الفيتوري (تغسل عني حزني / تحملني / ترجعني / إلى عيون وطني ) وقد كان فعدت قافلاً إلىي وطني بعد غربة قصيرة مدتها عامين ونيف .

(4)

في جيب الشنطة الخارجي ترقد في هدوء بضع شرائط تسجيل كاسيت أحدها للراحل القامة عبدالكريم الكابلي وبه (آسيا وأفريقيا) تغنى كلماتها وتدندن ألحانها وهي لم تزل في (جيب الشنطة) لم تدخل جهاز الحاكي والتسجيل بعد، ولعلها في هيئتها تلك كانت كما وصفها ود حد الزين (ترن براها / بلا تقرب ليها اييد) وذلك عندما أستبد به ترف الحنين إلى الوطن فقال ( أنا في هواك أصبح وتر / مشدود على كبد الزمان / يرن براهو بلا تقرب ليهو اييد) .

(5)

حملت معي آسيا وأفريقيا في شنطة اليد على الطائرة وهناً على اشتياقي لوطن غادرته ولم يزل دربي فيه أخضر، ثم على وهن المسافات البعيدة تنتصر القصيدة تتمدد في دواخلي غائرة مثل جراح الغرام والحب الوئيد..  وكان رفيقي في رحلة التعريف بالبلد ساعة حط طائري بها في جاكارتا الصديق الصدوق الراحل المقيم موسى مناع.. وموسى لمن لا يعرفه هو موسى الذي حين جاءني نعيه كتبت (تزدحم عندى الذكريات، تأتي كلها تقف علي أعتاب حزن لا قبل له ولا بعد، أمد يدي لأكتب، ترتد يدي لتمسح الدمع، أفتح عيني لأرى الحروف، تفيض بالدموع فلا ترى شئ غير موسى، ما تلك بيمينك يا موسى؟ أعلم أنك حققت مآربك الأخرى وصيرك الله إلى جواره في يوم الجمعة تقم الصلاة – كما دأبك في الحياة الدنيا – لذكره تعالى .. ما تلك بيمينك يا موسى؟ القها يا موسى من فوق جنات فردوس أعلى رحمة تلحق من كنت تلحقهم ساعة ضيق .. ما تلك بيمينك يا موسى؟ فلا تضن علينا بالدعوة بالرحمة – كما كنت تفعل صباح كل جمعة – وأنت تفرد أياديك البيضاء من غير سوء .. من غير من ولا أذى)  إنسان بتلك الصفات كان رفيقي في رحلة التعريف بأندونيسيا المكان والزمان والناس . مددت يدي إلى الشنطة، أخذت شريط الكابلي، أدخلته في مسجل السيارة وأدرته ليغني (عليه الكابلي)  آسيا وأفريقيا .

(6)

الراحل المقيم موسى استبد به الطرب فكان في كل مرة تنتهي فيها الأغنية يعيدها من جديد، قال لي وهو يعيد سماعها للمرة الرابعة، (دي أغنية تمجد باندونق بالمختصر المفيد) وأبدع فيها الشاعر الفنان. وقال لي لو أستطيع التواصل مع الكابلي لطلبت منه الحضور إلى أندونيسيا في رحلة أتكفل بكل مصاريفها وبكل تكاليف إنتاج (فيديو كليب) يجسد روعة الأغنية رأي العين والشوف، مثلما هي الآن شنفت آذاننا حد الطرب . قلت له أنا أوصلك به، وكتبت للكابلي ( أن أنزل باندونق ففيها ما يشحذ الخيال ويجعل أغنية آسيا وأفريقيا تغني لوحدها كوتر مشدود على كبد الزمان يرن وحده دون أن تقربه أنامل العزف .

(7)

لم يزر تاج السر الحسن يوماً أندونيسيا ولكننا زرناها ثانية وكان برفقتنا الرجل الفنان ساحر الكمان عثمان محي الدين الذي وقف أمام صورة إسماعيل الأزهري بمتحف آسيا وأفريقيا وأعمل أنامله في أوتار الكمان فعزف (السلام الجمهوري) ورددنا معه (هذه الأرض لنا وليعش سوداننا علماً بين الأمم) وكان الزعيم الأزهري علماً بين أمم كثيرة في متحف  (آسيا وأفريقيا)، ثم عرج لنا ساحر الكمان بأغنية آسيا وأفريقيا فصيرها سيمفونية رفعنا لها القبعات وصفقنا لها طويلاً.

(8)

وكنت في باندونق ذاتها أطيل التأمل في رونق الصبح البديع من خلال نافذة أفتح رتاجها على مصراعيه، وكأنّي أردد مع المغنّي “قوم يا حمام حيّ الغمام/ أنا لي فيك شوق واهتمام/ أسمعني من شدوك صدى”. وأعود إلى نافذة الغرفة ذاتها  عند الغروب وكنت  ” “أجلي النظر يا صاحي/ في منظر الإنسان/ الطرفو نايم وصاحي/ صاحي كالنعسان”..أبتعد عن النافذة التي تفيض بالجمال على أهداب المساء، ثمّ أسدل ستارها وكأنّ فصلاً من مسرحية الحياة توقّف، ريثما يلتقط الممثلون أنفاسهم اللاهثة قبل البدء في فصل جديد. عندها، أغلق باب الغرفة ثم أهبط الدرج الذي يفضي إلى مكان آخر للجمال استنشق من النسيم وسع رئاتي ثم أعود الي الغرفة ، أغلق الباب وأستمع إلى ( آسيا وأفريقيا ) .

(9)

شاعرنا تاج السر الحسن عندما قال في باندونق ما قال، كان يأخذ بمعايير الجمال التي تميزت بها مُدن منظومة عدم الانحياز كافة،  كان يتكئ على ذائقة شعرية خلّاقة، وروح ثورية وثّابة وعقل سوداني راجح و(مليان ثقافة)، حين كتب ألياذته التي أنشدها الكابلي:

“عندما أعزف يا قلبي الأناشيد القديمة/ ويطل الفجر في قلبي على أجنح غيمة/ سأغني آخر المقطع للأرض الحميمة/ للظلال الزُرق في غابات كينيا والملايو/ لرفاقي في البلاد الآسيوية/ للملايو ولباندونق الفتية”. عزف الفرقة الموسيقية المصاحبة  كان مبهراً، التوزيع الموسيقى كان نوتة انتزعت حروف الموسيقى فيها من عظمة المناسبة وأداء عبد الكريم الكابلي كان لا يشبه أي شئ سوى قصيدة نادرة غنى بها و(عليها الكابلي).

(10)

أجل فقد زُرت يوماً أندونيسيا، ورأيت الأرض الحميمة التي عشت فيها سنين عدداً، رأيت فبها الفجر يطل على أجنح غيمة، ورأيت الظلال الزُرق في مرتفعات ليمبانغ وحدائق الغابات على طريق داغو، وطفت شوارع باندونق زنقة زنقة. طفت بها باندونق وعليها كانت تمتد سمائي ثم لا تلبث ان تحملني هناك الي (عيون وطني) عند حلفا وعند خط الاستواء امسك القلم ، آسيا وأفريقيا القصيدة تغنى  (بلا تقرب ليها يد) أسطر جواب إلى أصدقائي وأقول لهم مثلما يقول تاج السر الحسن (ياصحابي ياقلوبا مفعمات بالصفاء/يا جباها شامخات كالضياء) ،  أنا في باندونق ولم أزل، أكتب لكم وسأظل أعزف لها من قلبي ألف قصيدة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى