إبراهيم أحمد الحسن يكتب: حُمِّيد ينعى (عِنْتِلّي ): كان وناس.. كان سواي ومو حداث!!

 

(1)

ذائقة الراحل المقيم الشاعر المبين محمد الحسن سالم (حُمِّيد) الشعرية عندما تغشى ضروب الشعر كلها  فإنها تفعل ذلك  بالفصيح والدارج، تكتب بالبلاغة كلها جناس،اقتباس ومقابلة واستعارة، وتشبيه تام ومؤكد، مجمل وتمثيلي بليغ يفصح حد الغموض ويخبئ اللفظ والتعبير تحت مواراة الإبانة والإفصاح . البيان عند حُمِّيد يتجلى في كافة قصائده يفصح ويبين فلا تجد قصيدة من قصائده لا تغشاها لمسة من علم البديع في مجيئها والمراوح قبل أن تخرج للملأ قصيدة كاملة الدسم، متسقة وقويمة.

(2)

الكتابة عن حُمِّيد وأشعاره تتطلب انقطاعاً تاماً في ركن قصي من الدنيا تسن فيها كل أدوات الكتابة عندك وتستعين بصمت مطبق و(سُكات) ثم تكتب، عندها فقط تستطيع أن تسبر غور عشرة بالمائة من أشعاره،وهنا دعوني فقط أحصر أشعاره في ضرب أولاه الراحل المقيم اهتماماً وسار فيه بشجن غريب ألا وهو الرثاء، هاف حُمِّيد بالرثاء كثيراً وصاغه قصائد عدة منها لبنات الجرف اللاتي خطفهن النهر (كلم بنيات الجرف وكل البنيات من طرف/ تتبري من بحرا غدر / إتغاب ما راع الولف/صاد الاخيتين بغدر ) ومنه كذلك رثاء حمتوعندما قال: ( ومرت الأيام درايش/ وحمتو محتار كيف هو عايش ؟ / جاري في الأرزاق يحاوِش/ رُبْ وقع بيناتها دايش / حمتو مات بين المعايش / حمتو مات مع إنُّو عايش / وما بكت غير الحدادي / مات وماطقَّالو صايح / لا خبيرو طقش لو رادي / مات وما نعتو الجرائد / لا بقت لو قبير بلادي).

(3)

ومع ذلك لم أر أصدق ولا أجلَّ ولا أفصح مما كتبه حُمِّيد عن صديقه (عِنْتِلّي).. و كتب الراحل العزيزعن عِنْتِلّي الشخص البسيط الذي يسعى بجمل هزيل ينقل به البصائع إلى كناتين الحلة و الحطب إلى من يحتاجه، كان يقوم بقص الأثر ويجيد فن التتبع دون بوصلة في يديه ولا إحداثيات ولا (قوقل ماب) سوى ما يحمله من جينات الفراسة والذكاء الوقاد، كان  عنْتِلّي وسط  رهطه أُمَّة يهب ويفزع في النفير، كان أيقونة المناسبات كلها في الأفراح وفي الأتراح، هاجر فجأة إلى البعيد ثم لم يحتمل وجع الغربة وصمت، ثم سكت في الغربة ثم مات ولم يقو صديقه حُمِّيد احتمالاً ولا صبراً فقال : (يا رسن الأمل عنْتِلِّي / ساب الحلة ركب الباص/ وين يلقى الأهل والخلِّي / لو لمَّ الدهب والماس).

(4)

هي مأساة عِنْتِلّي تبدأ عندما أطلق رسن جمله وهاجر تاركاً الحِلة ورائه، أكثر ما كان يؤلم حُمِّيد إن عِنْتِلّي لو جمع أموال قارون من ذهب وماس أين سيجد لمة الأهل والأصحاب، ثم ينبري حُمِّيد واصفاً عِنْتِلّي (يا عِنْتِلّي كان وناس / كان سواي ومو حداث / لي ضهر الحبيب حرَّاس /ولي أتر البغيب قصَّاص) يقول حُمِّيد ما وجد عِنْتِلّي إلا وجدت الونسة والضحك وفوق ذلك كانت من أجل صفات عِنْتِلّي أنه كان يفعل ولا يتحدث، كان نشاطه وعمل يده في الحلة، حيث يسكن وكان في ذات الوقت يجيد اقتفاء الأثر لفراسة  فيه وذكاء وقاد يميِّزه.

(5)

لم يمر بي في حياتي وصف بدأت فيه بسفور كل قواعد البيان والبلاغة بمثلما فعل حُمِّيد عندما قال عن عِنْتِلّي (تقلتو تخفف البكيات / تتقل خفتو الأعراس) فعِنْتِلّي كان يبدو دائماً رزين وحزين في بيوت العزاءات عند مصاب الوفاة، عِنْتِلّي كان يخفف برزانته وحزنه النبيل عن أهل الميت وكان في ذات الوقت ضابط للإيقاع الصاخب السريع في بيوت الأفراح مستخدماً خفة دمه كضابط لإيقاع الفرح حتى لا يخرج منه نشاذ يفسد نغمات الفرح عنده . وتتجلى روعة حُمِّيد عندما يجعل من عِنْتِلّي أُمَّة عند أهله عندما قال عنه: (نفير للقلي وحدو نفير / لمينة بيت مرق رصَّاص)، ولأن الناس والشباب في حلة عِنْتِلّي كانوا دائماً في حالة من الهجرة طلباً للماء والكلأ والعلم ثم الذهب والماس.

(6)

كان عِنْتِلّي هو من بقي وأصبح وحده نفير يستجيب للنداء وكان عند نفير البناء هو الأمينة، هو المرق وهو الرصاص، وإذا كان المرق معروف فإن (الأمينة) هي الشعبة من الحطب توضع في وسط غرفة الجالوص تسند (الرصاص) الذي هو عيدان تصنع من جذوع النخل وتوضع في سقف المباني تحمل سقف الجريد وصفق الأشجار النعال، فعِنْتِلّي كان وحده بمثابة نفير يسند (الأمينة)، يرفع المرق، ويعبئ رصاص البيوت.  حُمِّيد نزل عليه خبر وفاة عِنْتِلّي كالصاعقة فقال: ( كان عنتلي .. علِّي آناس / وكت ضحكةْ سترتو بكت / سكت منو وليه .. كان ونَّاس) انظر كيف حشد حُمِّيد الموت وحزن البكاء وأجل صفات عنتلي (الضحك) في ثلاث كلمات انظر كيف جعل حُمِّيد ضحكة عِنْتِلّي تموت، كيف جعل الضحكة ذاتها تبكي ثم كيف جعل الموت سترة ويا لها من سترة.

(7)

ثم انظر كيف جعل الصمت الذي اعترى عِنْتِلّي في الغربة فجأة مقدمة لصمته الأبدى وسكاته، يستنكر حُمِّيد هذا السكات الذي توشح به عِنْتِلّي قبل موته بأن قال:   (كان وناس) ينكر على من كان (وناس) هذا الصمت الفجائي (منه وليه) الذي بدأ قبل موته ثم صار أبدياً عندما مات. يمضي حُمِّيد قائلاً (صحينا مع الدغش ذات يوم / تبنا رقابنا ما من رأس/ حطب حتى الكلام ده حطب .. / حطب والحاطبو داسْ الفاس / تعب حتى السكات دا تعب … / تعب والتاعبو حاس الساس) جاء خبر وفاة عِنْتِلّي مع الفجر مع الدغش، تحسس حميد وأصدقاء عِنْتِلّي رقابهم ولم يجدوا عليها رأس فقد ارتحل عِنْتِلّي، تجلت بلاغة حُمِّيد في استخدام مفردة (رأس)، فهي تشير إلى رأس الإنسان ولكنها تعني -أيضاً- الحزمة من الحطب، ويؤكد ذلك البيت الذي يليه عندما جعل الحطب محور الحزن فالذي يجلبه قد مات ثم صار كل شئ حطبا، حتى الكلام أصبح كالحطب وقد أخفى عِنْتِلّي فأس احتطابه ومضى.

(8)

ويبلغ حزن حُمِّيد منتهاه حين يجعل من الصمت البليغ ساعة سماع الخبر يجعله ذاته حطب وتعب ويربطه بسكات أبدي لعِنْتِلّي. ويتذكر حُمِّيد عِنْتِلّي ووقفته عند البئر يساعد النسوة اللآتي يطلبن السقيا من البئر فيقول في حزن (يا عِنْتِلّي بير الحلي/ صد للحلي يابسي يباس) يناديه وقد رحل .. عد يا عِنْتِلّي عد للحلة فقد يبست البئر فيها عند غيابك تعال ارجع إلى البئر التي يبس مائها برحيلك وغار . ثم يصف عِنْتِلّي في مشيته المشهورة وهو يتلفت ملقياً التحية بحب والسلام على من يلقاه في دربه بحبور وانشراح ( ويتلفت تميره تملِّي) ثم يسأل حُمِّيد عِنْتِلّي في حزن دفين ( دحين ماك واعد الصبر بي راس ؟) والصبر امرأه في الحلة وقد طلبت من عِنْتِلّي رأس من الحطب، والصبر الذي يعنيه حُمِّيد هو الصبر الجميل عند الموت وخاصةً عندما يقول:  (روقي عيوني لا تنبلي بالدمع ../ الدمع منقاص /لي صبراً حبيبة فضل لِّي/ درَّابة بحر تنماص) فهو يطلب إلى عيونه ألا تذرف الدمع على الراحل لأن الدمع ينقص الصبر ويضعضع مواقف الأهل ومع ذلك فهو يستمسك بالصبر على قلته، صبراً فليل تبقى له وتجرفه الدموع بعد قليل كطين البحر الذي يذوب في الماء.

(9)

وبإيمان عميق يقول حُمِّيد في ختام مرثيته (صلِّي على البلد بعد الله .. / صلُّوا على الحبيب آناس / سلام لامن نلم يا خلة / في الحلي الحنيني خلاص / عليها سلام سلام وسلام) ذات الإيمان العميق الذي بذله حُمِّيد في ختام مرثيته للتوأم البنات اللائي غرقن في بحر الدميرة، حين قال: ( لو كان يشيل في الموت ذرف / دمعات أسى وحرقه أسف / آو بالحال العلبه يعترف / كان عن رسول الله وقف / كلم بنيات الجرف / وكل المكاليم من طرف / هي الدنيا كلها كم حرف / لا من يدوم فيها الأسف).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى