العدالة الانتقالية.. من يتذكرها؟

الخرطوم : انتصار فضل الله  19 يوليو 2022م

لم يعد الشيخ عبد القادر (70) عاماً، من كبار رجالات دارفور وشاهد عيان لكثير من الجرائم، يثق في القضاء السوداني لتحقيق العدالة وإنزال أقصى العقوبات الجنائية على مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في السودان.

أصيب عبد القادر “بخيبة” أمل

كبيرة جراء غياب دولة القانون،

تراجعت خطواته نحو الوراء في وقت يتمنى مثل غيره الوصول إلى  العدالة ونيل الحقوق المهدرة  .

أزمة عدالة

بنبرة حزينة تساءل عبد القادر  في حديثه معنا، من أين أبدأ وماذا أحكي؟ هل أسرد سلسلة جرائم الاغتصابات التي تعرَّضت لها النساء والفتيات في دارفور إبان حكم الإنقاذ؟ أم الإبادات الجماعية في حق مواطنين عُزَّل داخل قراهم السكنية من بينهم كبار سن وأطفال صغار؟ أم عن الخلاوى التي دُمِّرت وطالها رصاص الجناة وبداخلها أطفال يتلون القرءان.

انتهاك الإنسانية

صمت الشيخ عبد القادر برهة وكأنه يسترجع التاريخ المؤلم الذي عاش تفاصيله لحظة بلحظة، ثم قال: هل أتحدث عما جري في اعتصام القيادة بالخرطوم؟ ثم أردف: الجرائم كثيرة لا تحصى ولا تعد،

الشيخ عبد القادر من شمال دارفور، فقد أسرته في العام 2005م، وظل منذ ذلك الوقت عاجزاً أمام تحقيق القصاص والنيل من الجناة، يقول وهو يعلم جيِّداً أن الحق قد ضاع وطوت ملفاته يقول “أصحاب الحق ينتظرون فقط عدالة السماء أن تتحقق عاجلاً أم آجلاً”، ويتابع ، غياب العدالة جعل هناك تمادياً واضحاً في ارتكاب الجرائم ليس في دارفور وحده، بل في كل أنحاء السودان.

أحكام ولكن !

بلا شك أن إقليم دارفور من أكثر مناطق السودان التي تعرَّض سكانه للظلم، وبعد اندلاع الثورة وسقوط حكم الإنقاذ، هدأت رياحه لفترة قليلة، حتى عادت مجددا في شكل صراعات قبلية عمت أنحاء واسعة من الإقليم، وبحسب تقرير سابق للأمم المتحدة، أوقعت أعمال العنف في دارفور  منذ  عام 2003م، أكثر من (300.000) ثلاثمائة ألف قتيل، وشُرِّدت أكثر من (2.5) مليون فرد، ومع ذلك لم يحدث أن صدر حكم بشأن الجرائم والقضايا المعلقة ابتداءً من دارفور مروراً باحتجاجات 2013م، وحتى فض اعتصام القيادة، ومؤخراً قتل المتظاهرين .

مفهوم العدالة الانتقالية

حتى نتوصل إلى إشكالية تحقيق “العدالة الجنائية” كان لابد من التعريف بمفهوم العدالة الانتقالية، وهي الفرضية المطروحة خلال هذا التحقيق “ماهية  العدالة الانتقالية” وتأثير غياب المساءلة على الأوضاع في السودان .

وحسب متحدثين، إنها من أنجع الوسائل للمحافظة على التركيبة الاجتماعية السكانية، وخلق بيئة سليمة معافية للانتقال وللاستقرار والسلام من عهد الظلم إلى عهد العدالة، وأضافوا: يقوم مبدأ ومفهوم العدالة الانتقالية بالسودان على العفو والمصالحة، وأشاروا إلى افتقاد السودان تطبيق  العدالة حتى الآن على أرض الواقع.

تشير التجارب المحلية إلى أن تدابير المساءلة والبناء الاجتماعي تحتاج إلى مناخ آمن وسلطة شرعية لتنفيذ استراتيجية شاملة للعدالة الانتقالية تعكس احتياجات وأولويات مجموعة كبيرة من الشعب السوداني وتتضمَّن العديد من التدابير مثل: محاكمة منتهكي القانون ودفع التعويضات وانتهاج أسلوب متوازن ووضع آليات لتحري الحقيقة والقيام بإصلاحات مؤسسية.

وفقاً لدراسات أعدتها مراكز حقوقية،  الإصلاح الدستوري والمؤسسي وسيادة حكم القانون أهم عناصر تطبيق العدالة التي تقود بدورها إلى إعادة البناء الاجتماعي وإعادة الثقة للمجتمعات المحلية في سيادة ومقدرته على استرداد الحقوق، بجانب الاعتراف والاعتذار والالتزام بعدم التكرار والمعاودة التي تعتبر القاعدة التي تؤسس عليها مرتكزات الإنصاف للضحايا والمتضرِّرين وضرورة التسامح والعفو.

رؤية أسر شهداء حول العدالة

يقول الصادق سمل، والد الشهيد عبد الرحيم: كثر الحديث عن العدالة الانتقالية لكن في السودان ومنذ ثورة ديسمبر لم تخرج العدالة كثيراً خارج الرغبة لدى السلطات بأن يتم تأطيرها لتكون فرصة للتسويات السياسية غير ذات الجدوى في إحداث التغيُّرات الهيكلية نحو مجتمع راغب في إقامة نظم حياتية مغايرة لما هو سائد، وأضاف: لا ينظر إلى العدالة كآليات لتحقيق التعافي المجتمعي بقدر ما هي فرصة لضمان عدم المساءلة، ثم جاء وقت تعثر فيه الانتقال الديموقراطي ما جعل من غير الممكن الحديث عنها لتوقف عملية الانتقال نفسه، لأن من ضمن شروط قيام العدالة الانتقالية وجود انتقال ديموقراطي .

عوامل مساعدة

تابع سمل بالقول: لا بد من وجود نظام عدلي يخضع له أعلى هرم في السلطة ويكون مستقلاً عنها لضبط مؤسسات الدولة التنفيذية وحكم وضبط علاقاتها بحقوق المجتمعات وأعضائها .

يؤكد أهمية دور العدالة الجنائية، في حالة المجتمعات التي تعجز مؤسساتها العدلية عن مواجهة ما يواجه مجتمعاتها من انتهاكات وتكون غير راغبة في تحقيق العدالة لأفرادها، معتبراً عجز هذه المجتمعات عن إنصاف أفرادها وصمة غير حميدة لعدم قدرة أنظمتها على رؤية أفرادها على إقامة العدل.

قائلاً: العدل يجب أن يرى بأنه يتحقق،

وأردف سمل، محزن جداً أن تفقد الثقة في المؤسسات العدلية، ويعتقد أن هذا قمة ما يمكن أن يصف الوضع.

ويرى أن التسامح لا يعني عفى الله عما سلف، ولا يعني تكريس الإفلات من العقاب؛ لكنه يعني تحقيق شروط الضحايا بالقصاص من الجرائم بإجراء إصلاحات في المؤسسات وتحويلها إلى دولة قانون.

ركائز ومعوقات العدالة

أشار سمل، إلى عدة معوقات تواجه تحقيق العدالة، تتمثل في عدم وجود الإرادة السياسية لتحقيقها، وعدم استقلالية المؤسسات العدلية وانحياز النظم العدلية للسلطة السياسية وخلافه.

تتفق مع حديث سمل، الأستاذة إيمان إسماعيل يوسف عبد السلام، والدة  الشهيد قصي حمدتو سليمان، تقول :  بالرجوع لتاريخ السودان نجد أن آلة  الدولة العنيفة وجهت تجاه الشعب على مر الحقب التي تعاقبت على حكم السودان من بعد الاستقلال، وأضافت: ترتكز العدالة الانتقالية على أربعة ركائز أساسية ومهمة جداً في إنهاء عنف الدولة ورتق النسيج الاجتماعي والتعايش والتمازج السلمي. ترى أن العدالة الانتقالية هي الجسر الذي تعبِّر به البلاد إلى مصاف الدول المحترمة والمتقدِّمة.

وشدَّدت على ضرورة تحييد السلطة القضائية ووضعها كأعلى سلطة وتمتعها بالنزاهة والشفافية وتفعيل قوانين تحمي المواطن وتساوي بينه والمسؤول في الحقوق.

الاستعانة بالجانب الدولي

وأبانت إيمان، أن العدالة الانتقالية في كل دوله تختلف باختلاف الشعوب وخصائصها، لذلك لابد من تفصيل عدالة انتقالية تتناسب مع الوضع في السودان،   أما الجانب الجنائي الدولي فلا بد من الاستعانة به في جرائم ثورة  ديسمبر  المجيدة  للاستفادة من خبراتهم في التحقيق والتوثيق للانتهاكات الجسيمة.

قالت: “لا تعنيني قضية قصي بصورة تخص قصي وحده، بقدر ما يعنيني إصلاح المنظومة العدلية وإقامة دولة مؤسسات في السودان مقابل دم قصي ورفاقه الميامين”، أردفت : نحن لا نستنكر موت أعزائنا، لإيماننا بالقضاء والقدر ولكن نستنكر وبشدة الظلم الذي يقع عليهم من أشخاص المفروض أننا مثلهم في الحقوق والواجبات، وتساءلت من أعطاهم الحق في ظلمنا؟ وبأي مشيئة.

 

وأكدت على التسامح مقابل حفظ حياة السودانيين والسودانيات وإصلاح المنظومة العدلية وإصلاح الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلتها وتجديد عقيدتها، وأردفت بالقول: ” لا أنوي رفع دعوى في قضيه قصي أمام المحاكم”.

وسائل تحقيق العدالة

يتفق القانوني د.عبد العظيم حسن، مع التعريفات والرؤى السابقة لمفهوم العدالة، ويضيف بأن العدالة الانتقالية أفضل وسيلة في الأدوات القانونية للقضاء على الانتهاكات ورد المظالم التي ارتكبت بفعل نظام أو مجموعة من السكان نحو الآخر من انتهاكات إنسانية.

وأبان يستعمل مصطلح العدالة الانتقالية لرد المظالم وقضايا عالقة في فترة زمنية فيها انتقال بين عهد قمعي ظالم تمت فيه انتهاكات حقوقية وترويع وعهد ينتظره المواطن للانتقال إليه من نظام الجور إلى نظام عادل تقام فيه دولة المواطنة، وقطع بأن هذا لا يتم إلا بعد تحقيق العدالة عبر أدوات محدَّدة للانتقال من نظام ديكتاتوري قمعي شمولي إلى عهد يتم فيه التداول السلمي للسلطة وتحقيق تحوُّل ديموقراطي كامل وإقامة دولة المؤسسات تفصل فيه السلطات، دولة يبسط فيها الحرية والشفافية والمحاسبة والمساءلة.

انتهاك الوثيقة الدستورية

القانونية نعمة عبد القادر قالت: يعاني السودان كما عانى من قبل المظالم والظلم والانتهاكات، ويعاني كثير من العثرات والعقبات بسبب الانتهاكات المتراكمة على مدى التاريخ، وأضافت: السودان منذ عهد الاستعمار البريطاني وخاصة في عهد الإنقاذ الذي انفرد بجرائم إبادية وحرق القرى وقتل الشيوخ والنساء والأطفال وتهجيرهم قسرياً من مناطقهم على مدى ثلاثة عقود، بحاجة إلى إرادة قوية لتحقيق العدالة الجنائية، وأشارت إلى أن هذه هي الجرائم الكبيرة التي فرضت أن يتدخَّل مجلس الأمن الدولي وتحويل كل تلك الانتهاكات إلى المحكمة الجنائية الدولية في ظل عجز القضاء المحلي في الحكم الراهن وتحت نظام انتقالي سياسي معطوب يسيطر عليه الجنرالات الذين أحدثوا الانقلاب ضد الفترة الانتقالية، في وقت هم كانوا جزءاً من السلطة الانتقالية،  هؤلاء مفقودي الثقة لدى الشعب السوداني بسبب انتمائهم وولائهم للنظام البائد المنتهك لحقوق الإنسان.

 

وتابعت، ربما شركائهم في بعض الجرائم والظلم ثم انتهاكهم للوثيقة الدستورية الانتقالية والقيام بالانقلاب هذه الأسباب وغيرها تكفي لعدم الوثوق فيهم وعدم أهليتهم لخلق العدالة الانتقالية في محاسبة العهد الذي أسقطه الشعب، لا يمكن الحصول على العدالة الانتقالية ما لم يتم تجهيز المشهد والمسرح السياسي الانتقالي بانتقال السلطة إلى سلطة مدنية تدير البلاد وتؤسس للمؤسسات دستورية وعدالة انتقالية تجمع الشق الأهلي والمنظمات والقضاء.

 

“إمكانية تحقيق العدالة

حول إمكانية تحقيق العدالة في ظل الوضع السياسي الراهن،  يقول مولانا حاتم خورشيد، قاضي محكمة سابق: إن الوضع السياسي الراهن متشرذم ومتشظي وغير مستقر، حكومة غير قائمة وجهات متصارعة، مستبعداً تحقيق العدالة الانتقالية في ظل هذا الوضع، وأضاف: للعدالة الانتقالية متطلبات كثيرة، مشيراً إلى عراقيل تواجه تحقيقها ممثلة في عدم استقرار الحكم، مؤكداً أن الوضع غير طبيعي، لأن العدالة تحتاج إلى وضع ما قبل الانتقال وتأسيس الدولة، ذكر خورشيد، أن العدالة الانتقالية تقوم في شكل تطلعات وآمال شعب يناهض يحلم بتحقيق الديموقراطية ويعمل على تحقيقها من سلطات الموكل لها ذلك، وهي حكومة تنفيذية ومجلس وبرلمان ديموقراطي، بالإضافة إلى حكم برلماني عن طريق التيارات الديموقراطية، مؤكداً وجود عراقيل كثيرة تواجه تحقيق المساءلة الجنائية.

وحول تحقيق العدالة عن طريق العفو والمصالحة يرى خورشيد أن العفو يأتي من الضحية إلى المنتهك، ما يتطلب أن يعترف المذنب بذنبه ويطلب الصفح من الضحية وهو ما اعتبره من أساليب الحفاظ على الطرفين، ما يساهم في إصلاح المجتمع، وأشار إلى عدم وجود بنية تحتية سليمة في القضاء السوداني تقوم  بهذا الدور بأكمل وجه، مضيفاً أن القضاء السوداني حاد عن تحقيق العدالة المرجوة للشعب السوداني، منذ أن تمت أدلجته في العام 1989م، لتدخُّل الإسلاميين بكافة الطرق من أجل استمالة وتعيين عدد كبير من القضاة في سبيل تحقيق غايات الدولة التي ينشدها الإسلاميون وهي أسلمت المجتمع السوداني وما حوله وريادة المجتمع الإسلامي لكافة المسلمين الذين عملوا في القضاة، مضيفاً : لا يمكن أن ترجو من الذي يتم تعيينه من جهة تنفيذية أو حزب وغيره أن يحقق العدالة.

لتحقيق العدالة قال: لا بد من حكومة منتخبة تعنى بملف العدالة بالدولة وتوجه مباشرة لتحقيق العدالة الجنائية وترميم مظالم الماضي التي وقعت على الجماعات والأفراد بوسائل يراد بها إعادة الاعتبارات الإنسانية للضحايا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى