مَقَال دمُّه ثَقيل..!

“الوعود السِّياسيَّة في قطار الثورة هي أمتعة رُكّاب في غَاية الخِفّة، ويسهل جداً الإلقاء بها من النوافذ عند مَحَطّات الوصول، لذا تبقى أقصر الطُرق لمعرفة استحقاق الغير لثقتنا هي أن نعطيه إيّاها فينجح ونرتاح، أو يفشل فنستريح”.. الكاتبة..!

الكتابة للصحف ليس مهنةً فحسب، بل مشروع فكري ينبغي أن ينطلق من رؤيةٍ مُتماسكةٍ لذواتنا أولاً، ثُمّ للواقع المعيش من حولنا، لذا كان ولا يزال السؤال عن مفهوم صناعة الحاكم في بلادنا يَشغلني، ويَفرض حُضُوره في ما أكتب، سياسياً كان أم اجتماعياً، فقيمة الإنسان – في تقديري – هي شجرة وعي، والديمقراطية هي أهم عناصر تمثيلها الضوئي. وكثيراً ما يتطلّب ثقل المعنى أن يكون  دم المقال ثقيلاً ..!

إنّ التّخبُّط الثوري والإفلاس السِّياسي الذي يَقف مُجتمعنا على تخومه اليوم، ليس مُنعطفاً تَاريخياً فحسب، بل دلالة فادحة على فشل النخب السياسية في صياغة مفهوم للحاكمية تحت مظلة الديمقراطية. فصناعة الحاكم هي مشروع يعوِّل في نُهُوضه على مبادئ الديمقراطية الاجتماعية ومُكتسبات العقل الجمعي، وهُنا يتجلّى حُضُور الصّحافة في رفد الوعي الجمعي، وهنا تبرز أهمية دورها – وخُطُورة ضعفه أو غيابه –  في استدعاء التاريخ، وعقد المُقارنات، وإظهار الخلاصات، واستشراف المُستقبل، ونقد الواقع المعيش، والعمل على تَشكيل ملامح الواقع البديل، من خلال تحليل المحضور، وكشف المستور، وتوجيه دَفّة الوعي باتّجاه بوّابات التغيير، من الإصلاح والتطوير إلى تقرير المصير..!

إنّ الإرث الشفاهي للعلاقات الإنسانية في هذا المُجتمع يَحمل مقداراً هائلاً من مفردات الاستبداد، والاستعلاء، والوصائية، والمُبالغة في نَقد الآخر لا لشيءٍ إلا لأنّه على النّقيض، فَضْلاً عن التّشكيك في نَواياه وأجنداته، وقواه العقلية إذا لزم الأمر، ربّما لأجل ذلك يبقى “التقليد” هو البطل الشعبي الوحيد الذي لم يذق طعم الهزيمة في مُجتمعاتنا، ويبقى “التّجديد” هو العدو المجهول الذي تَطَاله الاتّهامات وتحفُّه اللعنات. هنالك من يقول “إنّ المسلمين لو تُركوا لتراثهم لما اكتشفوا الديمقراطية والنظام الدستوري، ولما عكفوا على تشجيع الجُمُود والاستتباع بلا إنتاج معرفي حقيقي أو منجز سياسي يعول عليه في ساحات الحُرية وميادين الديمقراطية” ..!

إنّ تطوير التسويق الإعلامي لمفهوم الحكم الرشيد في مُجتمعنا يَحتاج حِسّاً إعلامياً براغماتياً في تَقييم أزمات، ومَطبات، وعِلل، وأوجاع، ومَزالق، ومَهالك واقعنا  المُعاصر، وهذا يعني – من الآخر – أن يجتهد الإعلام في زراعة الناخب قبل أن يشترك في صناعة الحاكم. وهُنا تَبرز فكرة الوقوف على مَدَى استعداد هذا المُجتمع لصناعة التّجربة الديمقراطية المُمتدة، والدور الذي يُمكن أن تلعبه الصحافة في ذلك. ثُمّ تأتي مُناقشة فكرة “المستبد العادل” كوظيفةٍ مُؤقّتةٍ للحاكم، في مَرحلةٍ مُحدّدةٍ، تنتهي بتحقق الإصلاح السياسي والنهضة الاقتصادية، ومَدَى أهلية الشعب – اجتماعياً وثقافياً – للخلاص من طبائع الاستبداد، دُون أن يكون المُخلِّص نفسه مُستبداً يتحرّى العدل في تهشيم أضلاع الديمقراطية..!

هناك فرق – بطبيعة الحال – بين التَغيُّر والتَغيير، فالأول ينبع من ذات الشئ، والثاني يأتي خَارجه، لذا فإنّ نجاح أيِّ تَحولٍ ديمقراطي يَعتمد على كون الديمقراطية مَطلباً شعبياً وليست وسيلة جماهيرية، وبهذا المعنى يكون غياب الديمقراطية وحدها غير كافٍ لإحداث أيِّ تَحوُّلٍ، والدليل  أنّ بعض أنظمة الحكم العربي تَشهد استقراراً سياسياً في ظِل غياب الديمقراطية، لأنّ شعوبها تعيش في رفاهيةٍ..!

من جهةٍ أخرى، حَاولت بَعض القوى السِّياسيَّة في بعض الدول الاستئثار بمكاسب التّغيير الثوري على حساب الديمقراطية، ثم تحوّل المتغيرون أنفسهم إلى طُغاةٍ وأباطرةٍ بعد وصولهم إلي السلطة. لذا يبقى المعيار الحقيقي، بعيداً عن المُسمّيات، هو نجاح السُّلطة – أيّ سلطة – في توفير الحُقُوق الإنسانية، والسِّياسيَّة، والاقتصاديَّة للشعب الذي تحكمه – أو تتحكّم به –  في ظل تعايُش ديني، وتعدُّدية إثنية، وسلامٍ مُستدامٍ..!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى