فنان مهيب كتب اسمه ونقشه بأحرف من نور وأبداع

الطيب عبدالله .. فنان يتعتق بمرور السنين

فنان مهيب كتب اسمه ونقشه بأحرف من نور وأبداع
الطيب عبدالله .. فنان يتعتق بمرور السنين
كتب: سراج الدين مصطفى
علاقة محبة
ذكرت من قبل وقلت إن ثمة علاقة محبة نشأت بيني والفنان المبدع الطيب عبدالله، رغم أن علاقتي به بدأت قبل أن ألتقيه شخصياً من خلال أغنياته التي أحفظها عن ظهر قلب، وأنا واحد من الذين تشكلوا وجدانهم السماعي بأغنياته، لأن كل أغنية عند الطيب عبدالله تمثل حالة شعورية خاصة لا مثيل لها وبالتأمل في أغنيات مثل السنين وليل الفرح ونبع الحنان وغيرها نجد أنفسنا أمام فنان مهيب كتب اسمه ونقشه بأحرف من نور وأبداع في وجداننا وهو يستحق أن بني له تمثالاً في ناصية كل شارع وفي ركن كل بيت، ولعل مجئ الطيب عبدالله للاستقرار بالسودان هو دافع لتكريم هذا الرجل التكريم الذي يستحقه والذي يوازي عظمة ما قدم من غناء عذب وأرقى.
الفنان الذي هاجر في دواخلنا وسكنها:
بكل ذلك العنفوان في الفكرة والهمة قصدت منزل الأستاذ الفنان الكبير الطيب عبدالله، هذا الفنان الذي ظل مهاجراً في دواخلنا وفي أعماقنا عبر أغنياته التي نحفظها جميعاً عن ظهر قلب، ولعل تلك الأغاني كتبناها يوماً ما في رسائلنا لمن نحب، ومن منا لم يكتب في طرف ورقة:
ياغالية يا نبع الحنان .. يادرة يا ست الحسان..
أنا حبي ليك فاق الظنون وإحساسي باقي مع الزمان..
هكذا كتبناها نستجدي حبيباتنا في العمر الباكر من حياتنا، ولعل الرجل ساهم بقدر فاعل في تشذيب وتهذيب وجداننا السماعي الذي تربى على وقع أغنياته من شاكلة (السنين، فتاتي، نبع الحنان والأبيض ضميرك) وغيرها وغيرها من الغناء المعافي والجميل الذي جعل الحزن جزءاً أصيلاً من حياتنا، مع أن أستاذنا الطيب عبدالله يقول: (بعض المستمعين والنقاد حصروني في مكان ضيق وأنا مررت بتجربة عاطفية حقيقية، ذقت فيها مرارة الحرمان، وتعذبت، فكتبت الشعر بإحساس عاطفتي ووضعت اللحن بطعم حرقتي، وغنيت بحزني الدفين وعبَّرت عن حالي وحال كل محروم مرت عليه مثل تجربتي المريرة).
مدرسة غنائية ذات حزن خاص
الفنان الكبير الطيب عبد الله فرض مدرسته الغنائية ذات الحزن الخاص وأصبح في زمان ما هو الناطق الرسمي باسم كل الحزاني والعشاق، أغنياته كانت تعبير حقيقي عن صدق الشعور واحتشاد العاطفة البريئة في أغنياته التي كانت تعبر عن تجاربه الشخصية في الحياة، وذلك الصدق واقعيته كان سبباً في أن تكون كل أغنياته جزءاً من الحياة اليومية السودانية، وحزاينية الطيب عبد الله أكثر ما تتضح في أغنيته الكبيرة “السنين” ويتجلى في “يا غالية يا نبع الحنان” ويمتد إلى “فتاتي”، ولكن غياب الطيب عبد الله الطويل عن أرض الوطن جعل غنائيته في حدود ضيقة ولا تجد مثل ذلك الانتشار القديم.
مبدع سوداني أصيل تناثرت أصوله
ولكن قبل أن ندلف لتفصيل زيارتنا الاقتحامية للأستاذ الطيب عبدالله كان لزاماً أن نراجع بعض من سيرته الذاتية التي تقول: الفنان المطرب الأستاذ الطيب عبدالله اسمه الكامل-الطيب عبدالله أحمد الذبحاني، مواليد مدينة شندي 1941م، شمال الخرطوم وهو مطرب وشاعر وملحن سوداني من أصل يماني مشهور ذاع صيته وبزغ نجمه عالياً منذ بداياته الأولى في الستينيات في سماء الطرب إبان العصر الذهبي للغناء والفن السوداني، أشتهر الأستاذ الطيب عبدالله بعذوبة صوته ذا الطابع الحزين وتمكنه من امتلاك القرار والجواب في الأداء الغنائي وانتقاء الكلمات الرقيقة البالغة الحساسية وأجمع الكثيرون من معجبيه بأنه فنان استماع بالدرجة الأولى .
نشأ وترعرع في مدينة شندي لأسرة لأب يماني-المرحوم عبدالله أحمد الذبحاني- كان تاجراً أو قد قدم من اليمن من لواء تعز من قبيلة ذبحان من منطقة التربة الحجرية المعروفة ليستقر في مدينة شندي بالسودان في أوائل العشرينيات وليتزوج من شقيقة شركائه في التجارة من قبيلة الجعليين الزيداب، توفي والده وهو صغير السن في عام 1948م، بشندي ودفن فيها وكان أخوه الأكبر سليمان بمثابة الراعي الأول له ليواصل تعليمه ويتخرَّج في معهد التربية بشندي كي يعمل في مجال التدريس وكان ذلك في آخر الخمسينيات وكان له اهتمام بالأدب والتراث العربي القديم، وقد حفظ منه الكثير وكانت موهبته الواعدة في الغناء قد بدأت تتصاعد بشكل ملحوظ، حيث كان قد أتقن حينها العزف على العود وجذب بصوته الرائع إعجاب الكثير من الناس في مدينة شندي.
الثراء الإبداعي في تجربة الطيب عبدالله:
الثراء الإبداعي الذي اكتنف تجربة الأستاذ الطيب عبدالله كان مساره الحزن النبيل، ولعله يشير على أن زواجه وانفصاله من نعمات حماد كان تجربة عادية للغاية، ولكن هناك من يزيد معاناته، وهذا أمر عادي فالتجربة انتهت بالطلاق والانفصال، ولم تكن تجربة مريرة، حياته مليئة بأسباب عديدة للحزن والشجن، فقد كتب وتغنى قبل أن يلتقي نعمات حماد وبعدها ولا علاقة لها بهذا الأمر.
ذكر الأستاذ الطيب عبدالله، وقال من قبل: (كثيرة هي القصص، عديدة هي المآسي في حياتي، إنها تنبض من ذاتي، من قدري ويومياتي، ولكن من أين تنبع ومتى تتدفق هذا ما لا أعرف سره وتفسيره، قد أكون سعيداً وما إن أبدأ الغناء حتى تتفجر ينابيع الشجن في صوتي حتى حينما أكتب الشعر لا يأتي إلا دموعاً ولوعة فأصبح رسالتي وحياتي وسعادتي).
نعمات حماد..قصة بلا نهاية
وأنا في طريقي للأستاذ الفنان الطيب عبدالله كانت ثمة أشياء تدور في ذهني، ولعل قصة زوجته السابقة نعمات حماد، كانت واحدة من أهم المحاور التي أريد الارتكاز عليها، لأنها مثلت قمة الرواية بكل هي كل الرواية، لأن نعمات حماد، كانت نقطة محورية ومفصلية في حياة هذا الفنان الجميل، ولعل القصة بكل ما صاحبها من شائعات تستحق التمعن والتوقف لأنها كانت سبباً في تشكيل الوجدان الغنائي للطيب عبدالله، بل أصبحت تلك القصة وكأنه قصة الجميع ولمن عاش ذات التفاصيل والحكايا، ورغم أن العلاقة بينهما انتهت منذ زمن طويل ولكنها مازالت تحمل في أحشاؤها الكثير من التفاصيل التي تستحق أن تروى وتعاد من أقاصي الذاكرة والتوقف عندها يعني نبش وتحليل جزئية من أسباب تتطبع الأستاذ الطيب عبدالله بكل هذا الشجن الغنائي البديع والذي أصبح سمة مميزة له دوناً عن كل الفنانين مع أن الأغنية السودانية تاريخياً عرفت بالشجن والحزن المتوغل في كل مفرداتها الشعرية وجملتها الموسيقية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى