سراج الدين مصطفى يكتب : نقر الأصابع

13 مايو 2022م

على طريقة الرسم بالكلمات

(1)

تجدني أتوقف بإعجاب كبير عند تجربة الموسيقار شمت محمد نور عضو فرقة عقد الجلاد الغنائية ..فهو ـ بتقديري ـ واحدٌ من قلائل قادر على أن يصنع جملة موسيقية جديدة وحديثة  في كل مكوناتها وتفاصيلها ..ومن يستمع للألحان التي وضعها للفرقة يلحظ أنه مؤلف موسيقي يجيد سبكة الأغنية ويجعلها متكاملة من حيث المفردة واللحن العميق ..فهو يتقن اختيار المفردات التي يلحنها ..فكل أغنية من أغنياته تحكي عن ذائقة فنية عالية الجودة والتقنية.. ثمة أغنيات جديدة دفع بها شمت محمد نور للمستمع بداية من تبتبا ـ يابا مع السلامة وأخيراً أغنية ست البيت ونتمناك موحد ..ومن يتوقف عند تلك الأغنيات يلحظ قدرته الفائقة على اختيار الأشعار وهي كلها تقريباً للشاعر الكبير محجوب شريف ..وما يجمع شمت ومحجوب شريف هو أقرب للثنائية الوجدانية والتوافق والانسجام المدهش.

(2)

الطريقة التي يؤلف بها شمت محمد نور موسيقاه سبقه غيره في ذلك ، لكن  هنالك أشكال وعناصر جديدة أدخلها جعلت أغنياته  تتميز عن موسيقى الآخرين  في شكل الطرح والقالب الأدائي الذي تقدم به ، وهو بذلك قد حقق نوعاً من الريادة بفضل القواعد الجديدة التي أرساها في طريقة تفكيره لوضع موسيقاه حتى يكون نسيج وحده ..مع الوضع في الاعتبار أن عقد الجلاد حوت ثمة مدارس لحنية سبقته في وضع موسيقى الأغاني.

وإذا تأمّلنا تجربة شمت محمد نور في التأليف الموسيقي  نجدها تجتمع تحت عنوان واحد هو التحرر، فأصبحت السمة الأساسية أنه لا توجد قاعدة ، فقد تحرر في تأليفه الموسيقي من القوالب القديمة للموسيقى البحتة والكلاسيكية.

(3)

تتنوع كتابات الأستاذ «هاشم صديق» الشعرية بين العامية التي سجل بها أغلب أعماله، والفصحى التي كتب بها أحد اشهر القصائد الوطنية السودانية في ذكرى

ثورة اكتوبر الشعبية عام 1964. وبقيت قصيدة «الملحمة» بصوت الفنان «محمد الامين»، النشيد الرسمي للاحتفالات بذكرى اكتوبر كل عام، وتوجت  بفوزها بلقب «اغنية القرن» في استفتاء استديوهات» «سودانيز ساوند» بمناسبة الألفية الجديدة. وهو كواحد من القلة ممن يهتمون بتوثيق انتاجهم من المبدعين السودانيين، اصدر الاستاذ «هاشم صديق» عشرة دواوين شعرية مُخاطباً الوطن، المرأة، الزمن اللعين، السفر والترحال، الألم، المدن… وغيرها من مفردات ورموز شكلت بوضوح عطاء الشاعر فيه، ورسمت صورته لدى المُتلقي.

(4)

الاقتراب من هاشم صديق .. يعني الدخول الى عوالم جديدة ومختلفة .. فهو شاعر وسيم المفردة .. وعميق العبارة يتكئ على قاعدة ثقافية ضخمة أتاحت له معاينة المشهد الفني والثقافي بعدة زوايا .. لأنه في الأصل مبدع متعدد المشارب ومختلف الألوان .. فمن البديهي أن يتربع وجدان الشعب السوداني لأنه خرج من رحم المعاناة .. وذلك يتضح أكثر في مخطوطته جواب مسجل للبلد التي أعلن فيها البيعة كاملة غير منقوصة .. ولكنه مازال يدفع ثمن تلك البيعة من صحته وراحته .. حتى انزوى في ركن قصي بمنزله بحي بانت الأم درماني العريق يسامر غرف المنزل وشبابيكه التي يفتحها مشرعة للشمس للدخول في دواخله النقية والصافية التي تشابه تماماً حال (طفلة بتحفظ في كتاب الدين).

(5)

الراحل المقيم في وجداننا مصطفى سيد أحمد .. ولو لم يكن فنانا حقيقيا لما عاش خالداً عند الناس حتى هذه اللحظة .. سيرته وحكاياته تتجدد في كل يوم .. ولعل الموقف الفكري لمصطفى سيد أحمد هو العنوان الأبرز له كفنان اختط لنفسه مساراً جديداً وغير معهود .. وفن الغناء عند مصطفى سيد أحمد ليس مجرد لهو وتزجية وقت وإنما هو قضية إنسانية متكاملة الأركان .. فلذلك من البديهي أن يقول الناس عن مصطفى سيد أحمد بأنه (مفكر) قبل أن يكون (فنانا) .. وتلك هي الوصفة السحرية التي اكتشفها مصطفى سيد أحمد وعبر عنها شعرياً ولحنياً .. بأغنيات تتحرك ما بين القلب والعقل ..مصطفى سيد أحمد مشروع غنائي ملهم .. يستند على رؤية جمالية كانت هي خلاصة المنتوج العقلي والوجداني لهذا الشعب.

(6)

لم يستدرك بعض (مغنواتية) الجيل الحالي ان مصطفى وضع ضوابط صارمة للفنان الحقيقي على مر التاريخ ، وضرورة ان يكون للفنان  موقف صارم من العالم الذي يعيش فيه ويظل ناقداً مبيناً لقيم الخير والحق والجمال، كاشفاً لكل أقنعة القبح ومظاهره، محرضاً على الثورة والتغيير، راسماً معالم الحلم والظلم والظلام ..كان مصطفى فنانا له موقف صارم قبولاً ورفضاً ونقداً وتعرية، ولذلك فهو غنى لجملة الناس بما يعبر عن هذه المواقف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى