التفاصيل الكاملة لسقوط (البشير)

الحادي عشر من أبريل

 

الخرطوم: محمد جادين

في “الحادي عشر” من أبريل، رسم السودانيون لوحة الانتصار العظيم بدماء الشهداء وكتبوا بأيديهم نهاية المخلوع “البشير” بعد “6” أيام من وصول “الثوار” إلى محيط القيادة العامة وشروعهم في بناء السودان المُرتجى والوطن المُصغر الذي تشكل في “ساحة الاعتصام”، ست ليالٍ من الصمود رغم ثلاث محاولات متتالية لفض الاعتصام سقط خلالها عدد من الشهداء مدنيين وعسكريين برصاص الغدر والخيانة لحماية نظام تداعى وسقط من نفوس السودانيين بعد ثلاثة عقود عجاف تجرع فيها المواطنون كؤوس الظلم والقهر قبل أن يسقط فعلياً في يوم مشهود علت فيه زغاريد الفرح المنقوص وشقت فيه صرخات التحرر حناجر ملأها الغبن، دماء ودموع وتضحيات ومشاعر مختلطة بالفرح والحزن والفقد ونشوة الانتصار فاضت يوم “السقوط”، ومنذ ساعات الفجر الأولى ليوم الحادي عشر من أبريل بدأت الفصول الأخيرة لحقبة “الإنقاذ”، كانت الساعة تُشير إلى الخامسة صباحاً ومذيع الأخبار في الإذاعة السودانية يتأهب لنشرته الراتبه، ولكن هذه المرة سمع وقع أقدام غير مُعتادة في هذا التوقيت تزحم الأستوديو الضيق، عسكريون يملأون المكان ويُطالبونه بزف البشرى للشعب السوداني عبر الإعلان عن بيان منتظر من القوات المسلحة، تلك الشفرة التي تعني للسودانيين أن عهداً جديداً في طريقه إلى التشكل والظهور إلى العلن، لكن البيان تأخر كثيراً بسبب خلافات القادة الجُدد.

ما قبل السقوط

بعد وصول الثوار إلى محيط القيادة العامة للجيش في السادس من أبريل تغيرت المُعادلة وتشكل واقع جديد بعد مظاهرات واحتجاجات امتدت لأربعة أشهر في مختلف ولايات ومدن السودان التي لم يتوقف خلالها الحراك رغم العسف والقهر وسقوط عدد من الشهداء، ومع مرور كل يوم كانت شوكة الثوار تنمو أكثر صلابة وهم يتمترسون حول الشعار المُلهم “تسقط بس”، ومع تزايد الضغوط على نظام البشير كانت اجتماعات المخلوع وأعوانه تلتئم وتنفض مراراً بحثاً عن مخرج آمن، وفي يوم “الإثنين” الموافق الثامن من  أبريل بعد أول محاولة لفض الاعتصام، اجتمع وزير الدفاع حينها عوض بن عوف والفريق أول كمال عبد المعروف بالمعزول البشير ليبحثا معه حلاً مشرفاً يقضي بتنازله عن السلطة، وكان طرح الجنرالين ناعماً  ودبلوماسياً يتلمسان من خلاله اتجاهات تفكير الرئيس، لكنه لم يبد أي حماس باتجاه التسوية.

ومع مرور كل يوم كانت الحشود تتزايد في ساحة القيادة العامة، وفشلت محاولات كثيرة لفض الاعتصام بسبب تعاطف صغار الضباط ومتوسطي الرتب مع المعتصمين، حيث أصيب النقيب حامد عثمان حامد أثناء دفاعه عن المدنيين، وتمرد الملازم محمد عمر من سلاح المظلات وتمترس بقواته وسط المدنيين.

في مساء الثلاثاء التاسع من أبريل حاول البشير العودة لقيادة حزبه بعدما أعلن في وقت سابق ابتعاده عن رئاسة الحزب وتفويض السلطات لأحمد هارون، وخلال اجتماع للمكتب القيادي تم تبادل اللوم بين القيادات، ووقتها لم يرد البشير  تبديد الوقت وهو يرى النار قد لحقت بأطراف ثوب السلطة الذي امتد ثلاثين عاماً.

انتهى الاجتماع إلى قرار فض الاعتصام بقوة مشتركة تمثل الجيش والشرطة والأمن والدعم السريع وكان ذلك ما يبحث عنه الرئيس في تلك الأمسية.

القفز من السفينة

بعد  فشل محاولات فض الاعتصام وتلاحم الأمواج البشرية في ساحة القيادة ووصول وفود كبيرة من غالبية ولايات السودان للانضمام للاعتصام بدأ “رجال حول البشير” محاولات القفز من “سفينة الإنقاذ” التي أوشكت على الغرق، وحينها شرع مدير جهاز الأمن صلاح قوش في التحرك والتواصل مع القوى السياسية ورسم دور جديد له في الخارطة التي بدأت تتشكل وهو ما دفع بتساؤلات عريضة لاحقاً هل “قوش كان شريكاً في التغيير أم قفز من السفينة الهالكة محاولاً لعب دور البطل الخفي”.

وبالفعل شرع قوش في اتصالاته وحاول إقناع القيادي البعثي الباشمهندس محمد وداعة الذي ينحدر من نفس منطقته الجغرافية بحمل رسالة تطمين للمعارضة وربما أخبار سعيدة، لكن وداعة الذي تعلّم الحذر من أروقة حزب البعث، اعتذر عن لعب دور “المرسال”، واقترح ترتيب اجتماع مع من عناهم قوش برسالته.

كان قوش يرغب في الحديث إلى زعيم حزب الأمة الصادق المهدي والقيادي في الحزب الشيوعي صديق يوسف وعمر الدقير ويحيى حسين من حزب البعث، لعب وداعة دور الوسيط في ترتيب الاجتماع الذي عقد ظهراً بمنزل زعيم الأنصار رئيس حزب الأمة القومي الإمام الصادق المهدي.

وكان قوش قد اتصل بالبشير في إطار خطة التضليل ليخبره أنه سيجتمع بالمهدي وقادة المعارضة لإقناعهم بالانسحاب من أمام القيادة العامة وإلا سيتم إكراههم على ذلك، وطلب منه البشير الذي  بدا غير واثق من رجاله خاصة قوش بأن لا يذهب وحيداً، واقترح أن يذهب معه الفريق بن عوف، ولكن كان وقتها  مشغولاً باجتماع آخر، فحاول قوش استغلال الفرصة ليذهب وحيداً، إلا أن البشير أمره باصطحاب أحمد هارون هذه المرة، حينها أرسل قوش رسالة مقتضبة لوداعة مفادها أن هناك “لغماً” للإشارة إلى وجود ضيف غير مرغوب فيه.

في الاجتماع كان هارون متشنجاً ومتشدداً، خاصة بعدما أخبره المهدي بنيته إمامة المعتصمين أمام القيادة العامة للجيش في صلاة الجمعة، بعد أن هدد هارون بأن الاعتصام سيفض بالقوة إن لزم الأمر، وهنا طمأن قوش المجتمعين بأنه لن يتم فض الاعتصام، ثم طلب من المعارضة تقديم رؤيتها للحل، فتحدث المهدي على ضرورة تنحي الرئيس وتكوين مجلس عسكري، واعترض هارون على هذه المقترحات، بينما وعد قوش بنقلها إلى الرئيس.

عرض التنحي

في يوم “الأربعاء” العاشر من أبريل اليوم الذي سبق السقوط  عاد وزير الدفاع برفقة رئيس الأركان لزيارة البشير في مقر إقامته الملحق بالقيادة العامة للجيش، وعرضا عليه بشكل واضح حل التنحي عن السلطة، فكان هو بدوره أكثر وضوحاً وغضباً، وأخبرهما بأنه لن يتنحى وأن الشرع “أباح له قتل ثلث الشعب من أجل سلامة الثلثين”، ولم يتوقف عند ذلك بل هدد ابن عوف وعبد المعروف بالإقالة وقالها بالحرف الواحد “الحكاية دي لو ما قدرتو عليها سأكلف الأمن والدعم السريع بهذه المهمة”.

في الخامسة مساء من اليوم نفسه، كانت اللجنة الأمنية تعقد اجتماعاً خصص لطرح خطة فض الاعتصام، ترأس الاجتماع عوض بن عوف بحضور رئيس هيئة الأركان ومدير جهاز الأمن ومدير الشرطة وقائد الدعم السريع ومدير الاستخبارات العسكرية الفريق مصطفى محمد مصطفى، والفريق أول عمر زين العابدين نيابة عن قائد التصنيع الحربي.

قبيل الاجتماع كانت تفاهمات ثنائية بين عدة جهات الأولى بين قوش وحميدتي، وبين قوش ومدير الشرطة، والثالثة بين حميدتي والفريق أول عبد الفتاح البرهان المفتش العام للجيش، والرابع بين حميدتي وبن عوف. ويلاحظ أن أكثر هذه التفاهمات كان طرفها حميدتي، ما عزز إحساس جميع الجنرالات بأن قوات الدعم السريع ستكون القوة المرجحة في معركة خلافة الرئيس، كما فهم بعضهم أن طموحات حميدتي قد ارتفعت من مجرد مراقبة الأحداث إلى مستوى صناعتها، والرابط بين كل هؤلاء أن جميع التفاهمات كانت تفكر في الإطاحة بالبشير، ولكن كان الفارق الناقص هو فقط عامل الثقة بين الجنرالات.

اليوم الحاسم

في اليوم الحاسم ظهر رئيس المجلس السيادي الحالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في المشهد لأول مرة، ولم يكن وقتها جزءاً  من ترتيبات الإطاحة بالبشير، ولم يكن عضواً في اللجنة الأمنية، وعند منتصف الليل بعث رئيس هيئة الأركان باللواء محمد عثمان حسين لإحضار البرهان الذي كان استأذن لزيارة منزله.

حضر البرهان إلى مكتب رئيس هيئة الأركان حوالي الثانية صباحاً من يوم الخميس 11 أبريل، وتم إخطاره  بقرار اللجنة الأمنية، وطُلب منه قيادة وفد يشمله بجانب مدير الاستخبارات واللواء محمد عثمان الحسين لإبلاغ الرئيس بالقرار عقب صلاة الفجر، وتم التوجيه بتغيير كتيبة حراسة الرئيس المقدر عدد أفرادها بتسعين فرداً من غير الحراسة الشخصية، وتم إنجاز المهمة دون مقاومة تذكر، وجيء بقوات من الدعم السريع للقيام بمهمة حراسة الرئيس إلى حين.

في فجر اليوم نفسه خرج البشير من بيته داخل قيادة الجيش متجهاً نحو المسجد الصغير، ولم يكن قلقاً فقد طمأنه مدير الأمن أنهم سيفضون الاعتصام قبل الشروق، ولكن عندما ظهر البرهان برفقة عدد من الضباط يخطون نحوه بسرعة، أبطأ البشير خطواته، وظن وقتها أن المفتش العام للجيش يريد التزود بالنصائح قبل خوض المعركة الأخيرة ضد الشعب، لكن البرهان كان يحمل أخبارًا سيئة.

احتاج البشير بعض الوقت ليستوعب أنه بات رئيساً معزولاً بأمر الشعب قبل مرؤوسيه في اللجنة الأمنية التي أوكل لها مهمة فض ما يراه شغباً.

لم يتأكد البشير من هذه الحقيقة إلا بعد أن فتح النافذة التي تفصله عن كتائب الحراس، فوجد أن رجال اليوم ليسوا حراس الأمس، بعدها دخل في تفاصيل البحث عن أمنه الشخصي، مفضلاً البقاء في ذات المقر الرئاسي، لتنطوي صفحة ثلاثين عاماً من حكم الرجل الذي لفظه الشعب.

بيان السقوط

كانت الساعة تُشير إلى الخامسة صباحاً ومذيع الأخبار في الإذاعة السودانية يتأهب لنشرته الراتبة، ولكن هذه المرة سمع وقع أقدام غير مُعتادة في هذا التوقيت تزحم الأستوديو الضيق، عسكريون يملأون المكان ويُطالبونه بزف البشرى للشعب السوداني عبر الإعلان عن بيان منتظر من القوات المسلحة، تلك الشفرة التي تعني للسودانيين أن عهداً جديداً في طريقه إلى التشكل والظهور إلى العلن، لكن البيان تأخر كثيراً بسبب خلافات القادة الجُدد، وتسمر السودانيون أمام شاشات التلفاز وأرهفوا السمع للإذاعة وتحفزت ساحة الاعتصام للخبر اليقين، وسادت حالة من الترقب الشارع، منذ صباح الخميس، إثر الإعلان عن قرب إصدار بيان مهم، ومن ثم توافدت حشود هائلة إلى  موقع الاعتصام.

وبعد طول انتظار قررت اللجنة الأمنية العليا وقواتها المسلحة ومكوناتها الأخرى تنفيذ ما لم يتحسب له رأس النظام، وتحملت المسؤولية الكاملة لتغيير كل النظام لفترة انتقالية لمدة عامين تتولى فيها القوات المسلحة، بصورة أساسية، وتمثيل محدود لمكونات اللجنة ومن ثم ظهر بن عوف في بيانه الشهير.

نص البيان

عصر يوم الخميس الحادي عشر من أبريل، ظهر بن عوف في بيان بثه التلفزيون قال فيه “أعلن أنا وزير الدفاع رئيس اللجنة الأمنية العليا اقتلاع ذلك النظام والتحفظ على رأسه بعد اعتقاله في مكان آمن، كما أعلن الآتي”

أولاً: تشكيل مجلس عسكري انتقالي يتولى الحكم لفترة انتقالية مدتها عامان، وتعطيل العمل بدستور جمهورية السودان الانتقالي لـ2005.

ـــ  إعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر وحظر التجوال لمدة شهر من الساعة العاشرة مساء إلى الرابعة صباحاً.

ــــ  قفل الأجواء لمدة 24 ساعة والمداخل والمعابر بكل أنحاء السودان إلى حين إشعار آخر.

ـــ حل مؤسسة الرئاسة من نواب ومساعدين وحل مجلس الوزراء على أن يكلف وكلاء الوزراء بتسيير العمل.

ـــ حل المجلس الوطني ومجلس الولاية.

ــــ حل حكومات الولايات ومجالسها التشريعية وتكليف الولاة ولجان الأمن بأداء مهامها.

ــــ يستمر العمل طبيعياً بالسلطة القضائية ومكوناتها وكذلك المحكمة الدستورية والنيابة العامة.

ــــ دعوة حاملي السلاح والحركات المسلحة للانضمام لحضن الوطن والمساهمة في بنائه والمحافظة على الحياة العامة للمواطن دون إقصاء أو اعتداء أو انتقام أو اعتداء على الممتلكات الرسمية والشخصية وصيانة العرض والشرف.

ــــ الفرض الصارم للنظام العام ومنع الانفلات ومحاربة الجريمة بكل أنواعها.

ــــ إعلان وقف إطلاق النار الشامل في كل أرجاء السودان.

ـــ  إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين فوراً.

ـــ  تهيئة المناخ للانتقال السلمي للسلطة وبناء الأحزاب السياسية وإجراء انتخابات حرة نزيهة بنهاية الفترة الانتقالية ووضع دستور دائم للبلاد.

ـــ الالتزام بكل المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات بكل مسمياتها المحلية والإقليمية والدولية.

 

ــــ استمرار عمل السفارات والبعثات والهيئات الديبلوماسية والمنظمات المعتمدة لدى السودان وسفارات السودان الخارجية.

ــــ صون كرامة وحقوق الإنسان.

ــــ الالتزام بعلاقات حسن الجوار، والحرص على علاقات دولية متوازنة تراعي مصالح السودان العليا وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.

ــــ تأمين الوحدات العسكرية والمناطق الحيوية والجسور وأماكن العبادة.

ـــ تأمين واستمرار المرافق والاتصالات والموانئ والحركة الجوية.

ـــ تأمين الخدمات بكل أنواعها.

احتفالات

بعد البيان خرج مئات الآلاف في العاصمة الخرطوم، قاصدين القيادة العامة للجيش السوداني للتعبير عن فرحتهم بنجاح “ثورتهم” التي استمرت أربعة أشهر، واعتصامهم أمام القيادة المستمر طوال ستة أيام، بعد أن حقق أهدافه بتسلم الجيش للسلطة وإعلانه تشكيل مجلس عسكري انتقالي.

وأطلق أفراد الجيش زخات من رصاص الفرح بما في ذلك إطلاقات “مدفعية” ثقيلة، فيما تبادل الجنود والمتظاهرون والأحضان، أمام ساحة القيادة العامة للجيش، بعد ورود “إشارة”  من القيادة العسكرية بتسلم الجيش للسلطة وتنحية الرئيس عمر البشير من السلطة، وتكوين مجلس عسكري انتقالي يقود الحكم في البلاد لمدة عامين. .

وفور إعلان الاطاحة بحكومة الرئيس عمر البشير، علت الهتافات في كل أنحاء الخرطوم والمدن والقرى في الولايات، وصارت “الزغاريد” وهتافات النصر تتردد في كل مكان ووزّع المواطنون “الحلوى” ابتهاجاً بالنصر.

ولاحقاً بعد الفراغ من البيان وقبل الاتفاق على تشكيل المجلس العسكري، أدى ابن عوف القسم ولم يهنأ بالسلطة وسريعاً ما تعالت هتافات “تسقط تاني”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى